قبل عام ونيف، شاركت في لقاء تشاوري ضم عددًا من الباحثين والخبراء لمناقشة السردية التي نجحت دول الخليج، منذ العام 2013، في ترسيخها بشأن حركات الإصلاح والتغيير السياسي في العالم العربي. قدمت تلك السردية هذه الحركات، لاسيما المرتبطة بجماعات الإسلام السياسي، كواجهات لمشاريع تخريبية تؤدي بالضرورة إلى الفوضى والتطرف والانهيار الاقتصادي والعزلتين الإقليمية والدولية.
في ذلك اللقاء، بدا واضحًا أن هذه السردية قد أصبحت صلبة ومؤثرة، إلى درجة فرضت على قوى التغيير ومؤسسات المجتمع المدني التفكير جديًا في إنتاج سردية مضادة قادرة على التخفيف من أثرها وفتح ثغرات في بنيتها الخطابية. وقتئذ، لم يكن يخطر في بال أحد، أن تقود دول الخليج نفسها، بعد أشهر قليلة، عملية نفي ذاتي لهذه السردية فتتراجع عنها وتعيد تموضعها بما يتناقض وجوهر الأسس التي بنت عليها مشروعها السياسي والإعلامي لسنوات.
لأكثر من عقد، سخرت دول الخليج مجمل طاقاتها الإعلامية والمالية والسياسية من أجل مواجهة “الإسلام السياسي”، مُصنفةً إياه باعتباره التهديد الأبرز للنظم السياسية العربية القائمة على اختلاف أشكالها وأيديولوجياتها. عملت دول الخليج بجهد ممنهج لتصوير الجماعات الإسلامية كخطر وجودي على الدولة الوطنية الحديثة في المنطقة.
هذا التوجه لم يكن عشوائيًا، بل مدروسًا ومرتبطًا بأحداث كبرى، بدءًا من الربيع العربي وصولًا إلى الصراعات في سوريا وليبيا واليمن.
عُززت هذه السردية سياسيًا وإعلاميًا وماليًا من خلال تحالفات إقليمية ودولية استهدفت ضرب البنى التحتية والرمزية للإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، باعتبارها الوجه الأكثر وضوحًا وتنظيمًا. ولم يقتصر الأمر على الجماعات الإسلامية المتشددة فقط، بل طال التيارات الإسلامية المعتدلة التي كانت تحاول التوفيق/ التلفيق بين المرجعية الدينية الإسلامية والدولة المدنية.
ومع ذلك، هناك اليوم انعطافة واضحة في سياسات الخليج تجاه هذه التيارات، لا من مسار استيعابها، بل عبر رعاية نموذج متشدد من الإسلام السياسي يتم تُقديمه والترويج له باعتباره الخيار الأفضل القادر على تحقيق توازن دقيق بين الشرعية الشعبية الداخلية والتوافقات الدولية والإقليمية، أكثر من ذلك، يتم التبشير بهذا النظام الجديد باعتباره قادرًا على بناء علاقات منفتحة وطبيعية مع إسرائيل.
تتجلى هذه الانعطافة بشكل واضح في الحالة السورية، فمنذ سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024 بعد هجوم واسع شنته قوات المعارضة السورية المسلحة، بسط قائد هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع، سيطرته على مقاليد السلطة في دمشق، وفي 29 يناير 2025، تولى أحمد الشرع منصب رئاسة الجمهورية السورية للمرحلة الانتقالية، مستفيدًا من دعم تركيا وأغلب دول الخليج وعواصم غربية في بيئة خصبة بالتدخلات الإقليمية والدولية الطامحة لبسط نفوذها على البقعة الجغرافية التي خسرتها طهران فجأة.
كان من المتوقع، بل من الضروري، أن تبحث دول الخليج عن موطأ قدم على الأرض السورية ومزاحمة النفوذ التركي الذي يمثل خطرًا استراتيجيًا لا يقل عن خطر النفوذ الإيراني الآفل، أما ما يبدو استثنائيًا، فهو تسابق دول الخليج على مساعدة هذا النظام، دون أي اشتراطات أو تفاهمات صلبة، في الوقوف وتأمين القبول الإقليمي والدولي به، وهو الأمر الذي تبدو دول مثل العراق ومصر والأردن، أكثر وعيًا وإدراكًا لخطورته وتداعياته.
يحمل هذا التحول في طياته إشكالية بنيوية، إذ إن دعم نموذج إسلامي متشدد، كنظام الرئيس أحمد الشرع في سوريا، ذا مرجعية واضحة وصارمة قد يُحقق مكاسب آنية من حيث مد النفوذ الخليجي إلى سوريا لمزاحمة النفوذ التركي فيها، لكنه في المقابل، يُعمّق التناقض الجذري بين ما تم الترويج له على مدى سنوات وما يتم ممارسته اليوم من تبنٍ مباشر وغير مباشر لتيار راديكالي إسلامي.
تروّج بعض دول الخليج اليوم لنموذج إسلامي من نوع جديد، يزاوج بين الخطاب الديني الصارم وبين الانفتاح على السوق والنظام الرأسمالي العالمي، بل ويذهب بعيدًا في تقديم ضمانات كافية للولايات المتحدة والدول الأوروبية، والأكثر حساسية في هذا السياق، هو ضمان مسار تطبيع مستدام مع إسرائيل. هذا النموذج يتجاوز كونه مجرد تسوية سياسية عابرة، بل يُشير إلى مشروع متكامل لتقديم إسلام “جديد”، متشدد ومتناغم مع الحساسية الاجتماعية التقليدية داخليًا لكنه متفاهم ومنساق وحليف حقيقي للغرب والنظام الرأسمالي ولا يمثل خطرًا على إسرائيل.
وهنا تحديدًا، تبرز المخاطر بصورة واضحة. فالنموذج السوري الإسلامي الذي تُعاد صياغته سياسيًا لا يمكن التحكم الكامل بمساراته وتوجهاته الفكرية على المدى الطويل، خصوصًا وأن الخطاب الديني المتشدد يستمد شرعيته من أصولية قد تخرج في أي لحظة عن السيطرة. إن تعزيز التيارات المتشددة، حتى لو بدت منضبطة حاليًا، يعني عمليًا أن هذه الدول تزرع بذور مواجهات مستقبلية، خاصة في ظل ضعف الهياكل المدنية والسياسية التي يمكنها امتصاص مثل هذه التحولات أو تخفيف آثارها المتوقعة.
من جهة أخرى، يفتح هذا التحول الاستراتيجي في دعم نموذج إسلامي “متشدد مرن” المجال واسعًا لتناقضات خطرة داخل المجتمعات الخليجية نفسها. فالمجتمعات الخليجية ستكون أكثر جرأة على استثمار المشهد السوري ذاته في مطالباتها بتحول أنظمة الخليج – أو عودتها إن صح التعبير – إلى ذات التزمت والتشدد الديني داخليًا. علاوة على ذلك، قد يحفز نجاح هذا النموذج شعوبًا عربية أخرى نحو إنتاج أنظمة مشابهة تجمع بين التشدد الديني والقبول الدولي، ما قد يخلق موجة من التنافس الإقليمي على تبني نماذج إسلامية مشابهة. وهذا بحد ذاته يُمثل تهديدًا حقيقيًا للاستقرار الإقليمي ويزيد من احتمالات ظهور تناقضات اجتماعية وسياسية عميقة داخل المجتمعات الخليجية والعربية.
لا يمكن النظر إلى تقديم دول الخليج ودعمها رسميًا لنموذج إسلامي متشدد باعتباره مجرد مناورة سياسية قصيرة المدى، بل هو، بالفعل، لعب بالنار قد يرتد سلبًا على المنطقة بأسرها. فالراديكالية الدينية إذا ما تم منحها الشرعية المؤسسية والدولية، مع تبني سياسة التطبيع والانفتاح الاقتصادي، ستخلق حالة هشاشة مركبة يصعب السيطرة عليها لاحقًا، وهو ما سيعيد للإسلام السياسي والمجتمعات الخليجية والعربية على حد سواء، القناعة واليقين بأن الثورة على هذه الأنظمة قد يقود إلى نظام مشابه لنظام أحمد الشرع في سوريا وليس بالضرورة إلى ما أعتادت السردية الخليجية على ترويجه وتثبيته، من فوضى ودمار وتطرف وعزلة.
خلاصة الأمر، ما يحدث في دول الخليج اليوم يعكس تحولًا جوهريًا في الرؤى والاستراتيجيات، لكنه أيضًا يمثل مخاطرة غير محسوبة النتائج. ففي الوقت الذي يبدو فيه النموذج الجديد قادرًا على تحقيق توازنات سياسية آنية، فإن المخاطر التي يحملها على صعيد الاستقرار الداخلي والعلاقات الإقليمية تبقى عالية جدًا. لذلك، يتعين على صناع القرار في الخليج دراسة عميقة للآثار طويلة الأمد لهذه السياسات، قبل أن تتحول التجربة إلى أزمة أمنية وسياسية جديدة تصعب إدارتها والسيطرة على مخرجاتها.