تدخل دول الخليج اليوم واحدة من أكثر اللحظات حساسية منذ عقود، حيث تتقاطع النيران بين تصعيد إسرائيلي إيراني خطير وتحولات استراتيجية قد تعيد صياغة النظام الإقليمي برمّته.
في الثالث عشر من يونيو 2025، تصاعدت حدة المواجهة بين إسرائيل وإيران إثر هجوم جوي إسرائيلي غير مسبوق على منشآت نووية وعسكرية إيرانية حساسة، نتج عنه إلى جانب مقتل المئات من المدنيين وعلماء الذرة مقتل قيادات بارزة في الجيش وحرس الثورة.
ردت طهران بإطلاق عدد كبير من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة التي استهدفت العمق الإسرائيلي، مخلفةً خسائر بشرية ومادية. تزامن هذا التصعيد مع مفاوضات حساسة تجري بين إيران والولايات المتحدة حول الملف النووي بوساطة عمانية، مما يشير إلى دوافع استراتيجية مركّبة خلف التصعيد الإسرائيلي.
في المقابل، ولئن توافقت دول الخليج على إدانة الهجمات الإسرائيلية إلا أن حالة من الارتباك والحذر تبدو واضحة، وهو ما يعكس القلق البالغ لدى هذه الدول من تداعيات محتملة إذا توسعت المواجهة إلى حرب إقليمية شاملة، خصوصًا مع المخاوف المتزايدة من استهداف القواعد العسكرية الأمريكية الموجودة على أراضيها في أي رد إيراني محتمل على أي تدخل أمريكي مباشر في العمليات العسكرية.
هذا التصعيد العسكري لا يمكن فصله عن التحولات العميقة في استراتيجية الأمن والسيطرة الإسرائيلية على مستوى الإقليم، التي باتت تتجاوز حدود الردع إلى هندسة جديدة لموازين القوة، تبرز هنا، على وجه التحديد، ما تثيره وسائل الإعلام الغربية وبعض المسؤولين الإسرائيليين بأن أهداف العملية العسكرية الإسرائيلية تتخطى ضرب البرنامج النووي وتقييد القدرات الصاروخية الإيرانية، بل تمتد تغيير النظام السياسي برمته.
الهجوم الإسرائيلي استهدف بشكل أساسي منشآت نووية، من ضمنها مواقع تخصيب اليورانيوم ومراكز قيادية عسكرية تابعة للحرس الثوري الإيراني. كما استهدفت تل أبيب أهدافًا مدنية في مقدمتها بعض البنى التحتية والتلفزيون الإيراني.
استبقت إسرائيل الهجوم برفع حالة التأهب في قواتها المسلحة منذ منتصف مايو، كذلك طلبت الولايات المتحدة من عائلات موظفيها في سفارات واشنطن في بغداد وبعض دول الخليج العودة إلى الولايات المتحدة، وهو ما يرجّح التنسيق المسبق مع واشنطن على الأقل في المستوى الاستخباراتي.
الرد الإيراني جاء سريعًا وقويًا، حيث أطلقت إيران موجات متلاحقة من الصواريخ والطائرات المسيرة التي اخترقت الدفاعات الجوية الإسرائيلية، وأدت لإصابة أهداف استراتيجية في تل أبيب والنقب، من بينها وزارة الدفاع الإسرائيلية وأحد المراكز البحثية الوازنة وقواعد عسكرية رئيسية.
الولايات المتحدة، ورغم إعلانها عدم المشاركة المباشرة في الهجوم إلا أنها أكدت “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” وأرسلت تعزيزات عسكرية إلى المنطقة، شملت إرسال حاملة طائرات إلى شرق المتوسط، كما رفعت مستوى التأهب في قواعدها بالخليج. من جانبها، دعت بريطانيا وفرنسا إلى وقف فوري للتصعيد وانتقدتا، بشكل واضح، الهجوم الإسرائيلي مع تأكيدهما على الالتزام بأمن إسرائيل. روسيا – الحليف المتصور لطهران – كانت ردود فعلها باردة إذ اكتفت بالتحذير من مخاطر التصعيد وعرضت الوساطة بين الطرفين.
الموقف الخليجي
تظهر مواقف دول الخليج ارتباكًا واضحًا وتباينًا في مواقفها من التصعيد، وهو ما يعكس تفاوتًا في تقدير المخاطر.
هذا التباين مفهوم بالنظر إلى أن دول الخليج تستضيف قواعد أمريكية كبرى، ما يجعلها في خط النار المباشر في حال قررت إيران توسيع نطاق الرد العسكري. هذا التردد الخليجي يعكس أيضًا معضلة أعمق: كيف يمكن للدول الخليجية أن تحافظ على شراكاتها الأمنية مع الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة، دون أن تكون هدفًا مباشرًا في أي نزاع إقليمي واسع من جهة أخرى؟ أيضًا، ماذا سترث دول الخليج من إيران في حال انهيارها وماذا ستواجه؟ وكيف سيعاد تشكيل هذا البلد الواسع ذو التعداد السكاني الضخم من المسلمين الشيعة؟
اقتصاديًا، أدت المواجهة الإسرائيلية الإيرانية إلى ارتفاع حاد في أسعار النفط العالمية بنسبة تقارب 12%، ثم عادت للارتفاع مجددًا مع تزايد التوقعات بدخول واشنطن إلى الحرب، في ظل مخاوف جدية من إمكانية إغلاق مضيق هرمز أو استهداف منشآت النفط الخليجية. غنيٌ عن القول إن استمرار التصعيد قد يؤدي إلى خسائر اقتصادية كبيرة وطويلة الأمد للاقتصادات الخليجية التي تعتمد بشكل كبير على صادرات النفط.
على المستوى الأمني، تمثل احتمالات التدخل الإيراني عبر حلفائها مثل الحوثيين في اليمن والحشد الشعبي في العراق وحزب الله في لبنان، مخاطر مباشرة على أمن الخليج. كما تشير صور الأقمار الصناعية الأخيرة إلى أن إيران عززت دفاعاتها حول مضيق هرمز والمنشآت النفطية في الخليج، ما ينذر بتصعيد محتمل في العمليات البحرية.
على الصعيد الداخلي، تعاني حكومة نتنياهو من أزمات سياسية عميقة واحتجاجات متصاعدة ضد سياساتها في حرب غزة، وهو ما يجعل التصعيد العسكري فرصة محتملة لتوحيد الجبهة الداخلية، ويمكن القول أن هذا الأمر قد حدث فعلاً. رغم ذلك، نجاح إيران في توجيه ضربات صاروخية مؤلمة أصبح محفزًا لاعتراض شريحة واسعة من الإسرائيليين على الحرب.
في المقابل، تواجه إيران أوضاعًا سياسية واقتصادية متدهورة تدفع القيادة الإيرانية إلى التروي في توسيع المواجهة، خوفًا من التداعيات الاقتصادية والسياسية الداخلية التي قد تؤدي إلى نتائج وخيمة بما يمتد إلى استقرار النظام ذاته. رغم ذلك، تبدو التوقعات بأن النظام السياسي في إيران يواجه خطرًا وجوديًا مبالغًا فيها.
السيناريوهات المستقبلية
تتراوح السيناريوهات المحتملة بين تصعيد محدود قابل للاحتواء عبر التدخل الدبلوماسي الدولي السريع، وبين سيناريو حرب إقليمية شاملة قد تجر الولايات المتحدة مباشرة إلى المواجهة وتوسع جبهات الصراع عبر حلفاء إيران الإقليميين، ما يعرض أمن الخليج لمخاطر جسيمة.
هناك سيناريو ثالث أقل تداولًا لكنه قائم، يتمثل في استغلال إسرائيل التفوق السياسي والعسكري في لحظة انهيار الردع الإيراني لفرض واقع سياسي وأمني جديد في المنطقة يُغيّر معادلات القوة لعقود.
في الحقيقة، إن ما تسعى إسرائيل إليه اليوم هو أبعد من الأمن أو الردع، تبدو تل أبيب في طور مشروع هيمنة ومد نفوذ إقليمية يعاد فيه تشكيل موازين القوة من جديد.
إن نجاح إسرائيل في تحجيم إيران يطلق مرحلة جديدة من السياسات الإسرائيلية التي قد لا تفرّق في تفاصيلها بين عدو تقليدي وحليف. من هنا، يصبح الموقف الخليجي الحذر والتفاعلي غير كافٍ، بل يجب أن يُبنى على قراءة عميقة لتحولات العقيدة الأمنية الإسرائيلية.
تظل دول الخليج اليوم مطالبة بأكثر من مجرد إدارة الأزمة. إنها مدعوة لإعادة تقييم استراتيجيتها الأمنية إزاء التحولات الجارية والانخراط النشط في صياغة نظام إقليمي جديد لا يُبنى على موازين قوة مختلة تضر بمصالحها وأوزان دول الخليج الحقيقية. عندها فقط، يمكن لدول الخليج أن تكون فاعلة في هذه الساحة المعقدة من الصراع لا ضحية لها.