الملخص التنفيذي
تتناول هذه الورقة التحليلية أدوار وهياكل أجهزة الاستخبارات في دول مجلس التعاون الخليجي وإيران في سياق إقليمي بالغ التعقيد، يتداخل فيه الصراع العسكري التقليدي مع حروب الوكالة والهجمات السيبرانية، حيث لم تعد معادلات الأمن تُقاس بعدد القوات أو الإنفاق الدفاعي بل بمدى فاعلية المؤسسات الاستخباراتية في إدارة المخاطر واستباق التهديدات.
ترصد الدراسة التحولات البنيوية في أجهزة الاستخبارات الخليجية ومراحل تطورها، كذلك ما شهدته من تحديث ملحوظ بفضل الشراكات الاستراتيجية والتقنية مع الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل. في المقابل، تكشف الورقة ما تسببت فيه هذه الشراكات من تبعيات استراتيجية تهدد استقلال القرارين السيادي والأمني، لتصبح دول الخليج متأثرة ورهينة لمعادلات متغيرة وخارج إرادتها.
تناقش الورقة فشل دول مجلس التعاون الخليجي في تجاوز التحديات التنسيقية العميقة، حيث تستمر الاختلالات السياسية وتضارب الأولويات بين العواصم الخليجية في تقويض إمكانية بناء منظومة استخباراتية موحّدة وفاعلة، إذ لا تزال دول الخليج تتحرك – منفردة – ضمن تصورها الخاص للتهديد، وهو ما يجعل من التعاون الاستخباراتي أقرب إلى التنسيق الموضعي منه إلى بناء أمن جماعي مستدام.
في المقابل، تشرح الورقة نموذج إيران الاستخباراتي وبنيته العقائدية التي ترتكز على تكامل وزارة الاستخبارات وفيلق القدس في الحرس الثوري وأجهزة أخرى. أتاح هذا النموذج لإيران هامشًا واسعًا من المرونة في إدارة “حرب الظل” عبر شبكة الوكلاء الإقليميين، لكنه في الوقت ذاته، أفرز فوضى تنظيمية نتيجة تعدد مراكز القرار وتضارب الصلاحيات بين أجهزة الدولة، ما أدى إلى إخفاقات أمنية جسيمة وعميقة في مواجهة الهجمات الإسرائيلية الأخيرة.
تبرز الدراسة الحرب السيبرانية كساحة استراتيجية مركزية في المشهد الخليجي – الإيراني، تُستخدم فيها أدوات الاختراق الرقمي والتضليل الإعلامي كسلاح استخباراتي لا يقل فاعلية عن الضربات الجوية أو العمليات الخاصة. مكّنت هذه الأدوات الطرفين من الوصول إلى عمق البنى التحتية والتأثير في الرأي العام وفرض إيقاع جديد للمواجهة، تتداخل فيه الحدود بين المدني والعسكري والعلني والخفي.
وفي حين تنخرط بعض دول الخليج وإيران في توسيع نفوذها الاستخباراتي عبر أدوات القوة الصلبة، تُوظّف سلطنة عُمان جهازها الاستخباراتي كأداة للوساطة وبناء الثقة لتثبت بذلك أن الاستخبارات يمكن أن تكون منصة لخفض التوتر، لا بالضرورة، ذراعًا للضرب والاختراق.
تخلص الورقة إلى أن بناء منظومة استخباراتية أكثر فاعلية في دول الخليج يستوجب تأسيس مركز استخباراتي خليجي مشترك يُعنى بتبادل المعلومات والتنسيق والإنذار المبكر، ما يسمح بتجاوز حالات الاختلافات البينية وتقليص فجوات الثقة بين العواصم الخليجية. كذلك تؤكد الورقة على أن إطلاق مسار حوار استخباراتي وقائي مع إيران، تحت رعاية أطراف محايدة كسلطنة عُمان، قد يسهم في تخفيف حدة الاشتباك ويضع أرضية لتفاهمات ميدانية في مناطق النزاع.
تدعو الدراسة إلى ضرورة تنويع الشراكات التقنية الخليجية مع قوى عالمية ناشئة لتقليص التبعية التكنولوجية ومعالجة مظاهر الانكشاف الاستخباراتي الداخلي لأجهزتها. وفي السياق الإيراني، ترى الورقة أن إعادة هيكلة العلاقة المؤسسية بين وزارة الاستخبارات والحرس الثوري واستخبارات الشرطة بات أمرًا ملحًّا لتقليص الفوضى التنظيمية وتعزيز كفاءة هذه الأجهزة، إلى جانب حسم مسار التعاون التقني مع الصين وروسيا على نحو يخدم استقلال القرار الأمني الإيراني وتعزيز قدراته التقنية.
تتوزع الورقة على سبعة فصول رئيسية تبدأ بسياق تحليلي يمهّد لفهم تحولات العقيدة الأمنية في الخليج وإيران، يلي ذلك عرضٌ لهياكل الاستخبارات الخليجية، ثم تحليل للمنظومة الإيرانية وتشابكاتها المؤسسية. وتتناول الفصول اللاحقة خرائط التعاون والتنازع بيد دول الخليج داخل منظومة مجلس التعاون، تنامي الحرب السيبرانية بين دول الخليج وإيران، تقاطعات المواجهة في بؤر التوتر الإقليمي وصولًا إلى فصل ختامي يقدم تصورًا إصلاحيًا لبناء منظومة استخباراتية متماسكة في منطقة تتأرجح بين الاستقرار والهشاشة.
أولاً: توطئة
يتكوّن واقع الأمن الإقليمي في دول مجلس التعاون الخليجي وإيران من شبكة معقدة من المتغيرات والتحديات التي تشمل مستويات عدة: من التصعيد المباشر والتهديدات العسكرية التقليدية، مرورًا بحروب الوكالة في اليمن والعراق ووصولًا إلى الحروب السيبرانية والتنافس الاستخباراتي.
في هذه البيئة المتشابكة، لا تقاس المعادلات الأمنية بحجم الجيوش وقدراتها العسكرية وحسب، بل أضحى لوسائل جمع المعلومات وتحليلها دورٌ محوريٌّ في رسم سياسات الاستجابة السريعة وباتت أجهزة المخابرات هي الذراع الطويلة التي تعتمد عليها النظم السياسية لحماية مصالحها الوطنية.
في دول الخليج، شهد العقد الأخير تطورًا ملموسًا في هياكل أجهزة المخابرات، انعكس في توسيع مهامها وأدواتها وفي تعزيز قدرات تحليل الميتاداتا المظلمة (البيانات الوصفية المخفية) وتنسيق عمليات الإنذار المبكر عبر منصّات مشتركة مع حلفاء غربيين. كما دفعت تهديدات ومزاحمة محور إيران لدول الخليج إلى تعميق شراكات الأخيرة مع الولايات المتحدة وبريطانيا.
من جانبها، تبنّت إيران نموذجًا استخباراتيًا عقائديًا يمزج بين وزارة الاستخبارات والأمن وفيلق القدس في الحرس الثوري، ما منحها مرونةً عالية للعمل عبر شبكة واسعة من الوكلاء. أثبتت هذه المنظومة فاعليتها في استغلال التناقضات الداخلية والإقليمية لبلورة ما يُعرف بحرب الظل، حيث تُوظَّف الموارد المالية والشبكات السياسية والإعلامية في دول مثل العراق ولبنان واليمن لتجنيد عناصر محلية وتوجيهها تحت غطاء دعم المقاومة. غير أن هذا النموذج يواجه بدوره ضغوطًا متعددة الأوجه؛ فالعقوبات الاقتصادية الدولية تحدّ من قدرات إيران على تحديث تقنياتها في الوقت الذي يخلق فيه التنافس الداخلي بين أجهزتها ازدواجيةً في المعلومات وتضاربًا في الصلاحيات يعيق سرعة الاستجابة للاختراقات الخارجية.
ورغم اختلاف الأطر التنظيمية بين دول الخليج العربية وحلفائها الغربيين وإيران، ثمة تقاطعات مصيرية؛ فالتنافس على النفوذ الاستخباراتي امتدّ إلى ساحات الحروب بالوكالة حيث يُستخدم المال والمعلومات كسلاح مضاعف، بالإضافة إلى مجال الاغتيالات والعمليات الخاصة التي تستهدف إنهاء نفوذ قادة عسكريين أو سياسيين أو حتى أنظمة المعلومات.
ترسم هذه المقدمة مسارًا واضحًا لفهم كيفية تجاوز المناخ الإقليمي الخليجي – الإيراني مرحلة المواجهة الإقليمية التقليدية، إلى مرحلةٍ أكثر وزنًا على مستوى يجعل من الاستقرار الإقليمي مرهونًا بمدى فاعلية أجهزة الاستخبارات وقدراتها.
ثانيًا: الأجهزة الاستخباراتية في دول مجلس التعاون
السعودية: تناغم مؤسسي وشراكات غربية
تشكّل المشهد الاستخباراتي في السعودية من عدة هيئات ذات اختصاصات متكاملة، ترتبط مباشرة بالقيادة العليا في الدولة وتخضع إداريًا لمجلس الوزراء.
خارجيًا، تبرز رئاسة الاستخبارات العامة بوصفها الجهة المسؤولة عن جمع وتحليل المعلومات الاستخباراتية الخارجية، مراقبة التهديدات العابرة للحدود وتتبع شبكات الدعم اللوجستي للمجموعات التي تمثل تهديدًا مباشرًا للبلاد.
أما داخليًا، فتعمل عدة أجهزة تحت مظلة رئاسة أمن الدولة التي أُنشئت بأمر ملكي في 20 يوليو/تموز 2017، وتتبع مجلس الوزراء، وتُعنى بكل ما يتصل بأمن الدولة الداخلي. يتحمّل جهاز أمن الدولة مسؤولية مباشرة عن مكافحة الإرهاب والتجسس الداخليين وجمع المعلومات عن الأفراد أو الجماعات المناوئة للنظام. وتندرج تحت رئاسته مؤسسات أمنية متخصصة، من أبرزها: المديرية العامة للمباحث (المباحث العامة)، وقوات الأمن الخاصة، وقوات الطوارئ الخاصة، بالإضافة إلى مراكز دعم فني وتحليلي مثل مركز المعلومات الوطني ومركز الأمن الوطني.
ورغم ما يبدو من تكامل وظيفي بين هذه الأجهزة، إلا أن التحديات التنسيقية لم تُحلّ بالكامل؛ فبعض الملفات الحساسة لا تزال عرضة لتداخل في الصلاحيات بين الجهات الأمنية، ما قد يحدّ أحيانًا من سرعة الاستجابة للتهديدات المباغتة. كما أن تحديد أولويات الأمن يخضع، في كثير من الأحيان، لتقديرات ظرفية أو شخصية.
بعيدًا عن هذه الإشكاليات، تستفيد الرياض من برامج تدريبية منتظمة تنظمها الأكاديميات وأجهزة الاستخبارات الأميركية والبريطانية، بهدف تطوير قدرات كوادرها الأمنية في مجالات جمع المعلومات وتحليلها وتقدير المواقف الاستراتيجية. كما تُبقي السعودية على تعاون وثيق مع الولايات المتحدة في المجال الاستخباراتي، يشمل تبادل المعلومات ومواكبة أحدث تقنيات الرصد، لا سيما ما يرتبط بأنظمة الأقمار الصناعية والاستشعار عن بُعد، التي تُستخدم في مراقبة الاتصالات وتحرّكات الجماعات المعادية في مناطق مثل الخليج وشمال اليمن وجنوب العراق. هذا التعاون يُعدّ أحد مصادر القوة الإضافية للمنظومة الاستخباراتية السعودية، خصوصًا في بيئة إقليمية تتسم بالتقلب والصراع المستمر.
الإمارات: الإدارة المركزية والتقنيات المتطورة
يشكّل جهاز أمن الدولة التابع لرئيس البلاد قلب المنظومة الاستخباراتية داخل الإمارات، فهو المسؤول عن جمع المعلومات الداخلية ويمتلك صلاحيات مراقبة واسعة على شبكة الإنترنت والاتصالات. بالتوازي، تمتلك كل إمارة جهازًا داخليًا ومن أبرز هذه الأجهزة الفاعلة جهاز “أمن الدولة في دبي” الذي يعمل مستقلاً وينسق معلوماته مع جهاز أمن الدولة الاتحادي.
وتختص “وكالة استخبارات الإشارات SIA التي تأسست عام 2012م باسم الهيئة الوطنية للأمن الإلكتروني بجمع المعلومات الاستخباراتية عن طريق مراقبة الإشارات والاتصالات وتركز مهامها على كشف التهديدات السيبرانية ومراقبة الاتصالات المشفرة ودعم الأجهزة الأمنية بمعلومات استخباراتية نوعية عبر تحليل البيانات.
عسكريًا، تعمل المديرية العامة للاستخبارات العسكرية على جمع المعلومات الاستخباراتية الاستراتيجية والعسكرية المتعلقة بالتهديدات الخارجية وحركة القوات والمجموعات المسلحة، وتنضوي تحت مظلة وزارة الدفاع.
منذ عام 2010، شرعت الإمارات بتنفيذ مشروع استراتيجي لتحديث قدراتها الاستخباراتية عن طريق استقدام خبراء غربيين وإنشاء مركز للتحليل الاستراتيجي في أبوظبي يضمّ مختصين في الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، مكّنت هذه الخطوات الإمارات من التنسيق المباشر مع الوكالات الغربية وتبادل الملفات الحساسة.
على صعيد الابتكار التقني، استفادت الإمارات من اتفاقيات “أبراهام” عام 2020 لتعزيز التعاون مع إسرائيل، فتعاونت أجهزة الأمن الإماراتية مع “الشاباك” و”الموساد” في مجالات أمن الطيران وتطوير برمجيات التجسس الرقمي.
رغم هذه المنجزات، يواجه الجهاز الاستخباراتي الإماراتي تحدياتٍ عدة، في مقدمتها تحقيق التوازن بين الانفتاح الاقتصادي الجاذب للاستثمارات الأجنبية والرقابة الأمنية الصارمة على تدفقات الأموال، إذ يثار في بعض الأحيان شكوك حول مستوى الشفافية المالية.
علاوة على ذلك، لا يزال الاستثمار في العنصر البشري متأخّرًا، ما يدفع الإمارات إلى أن تعتمد جزئيًا على خبراء أجانب في بعض التخصصات التقنية المتقدمة، وهو ما يجعل من أجهزتها الأمنية سهلة الاختراق، خصوصًا بعد مغادرة هؤلاء الخبراء مواقعهم الوظيفية. يضاف إلى ذلك، وجود حساسيات إقليمية من بعض دول الخليج تؤدي إلى إعادة النظر في أطر التعاون المشترك مع أبوظبي، وبالخصوص من جانب كل من سلطنة عُمان وقطر والسعودية.
قطر: غرفة استخبارات وفيتو إقليمي
تأسس جهاز أمن الدولة القطري عام 2004م بعد دمج جهاز المخابرات العامة مع جهاز التحقيق وأمن الدولة، وهو جهاز تابع لوزارة الداخلية يُعنى بجمع المعلومات الاستخباراتية داخلياً وخارجياً ويضطلع بالمسؤولية الأساسية في مكافحة الأزمات الداخلية والتجسّس والجرائم التي تمسّ الأمن الوطني.
يعمل جهاز أمن الدولة على تحليل التهديدات المحتملة ضد الدولة، إضافةً إلى إجراء التحقيقات الأمنية الداخلية في حال الاشتباه بمحاولات التحريض أو التجسّس أو التأثير الخارجي في الشؤون القطرية.
وإلى جانب هذا الجهاز، يعمل جهاز الاستخبارات العسكرية كجهاز مستقل يتبع أمير البلاد بشكل مباشر. ويختص بجمع المعلومات الاستراتيجية والميدانية حول التهديدات العسكرية المحيطة وبأمن وسلامة القوات المسلَّحة ومعسكراتها وقواعدها ومكافحة أعمال التجسّس، كما يعمل على إعداد تحليلات استخباراتية لتقدير الموقفين الأمني والعسكري.
يعمل في قطر جهاز ثالث تحت مسمى “جهاز الاستخبارات المالية” على جمع المعلومات المالية الاستخباراتية لتحليلها وكشف عمليات غسيل الأموال وتمويل الإرهاب.
أتاحت شبكة العلاقات الواسعة لقطر مع الجماعات الإسلامية ودورها الوسيط بين أطراف مثل حماس وإسرائيل والولايات المتحدة وطالبان وإيران، إلى بناء اتصالات استخباراتية متعددة المسارات. واستفادت الدوحة من القواعد الأميركية على أراضيها في تطوير قدراتها في المراقبة الفضائية ورفع دقة المعلومات الاستخباراتية.
غير أن الأزمة الخليجية عام 2017، التي شهدت قطع السعودية والإمارات والبحرين ومصر علاقاتها الدبلوماسية والسياسية مع الدوحة، أظهرت مدى حساسية الدور الاستخباراتي القطري. اتُهمت الدوحة، آنذاك، بدعم جماعات الإسلام السياسي ما أدّى إلى تراجع دورها في تبادل المعلومات الأمنية المشتركة مع بقية دول الخليج. لا تزال الدوحة تحاول التوفيق بين استقلاليتها الأمنية والضغط الإقليمي إذ يدفعها الانقسام الخليجي إلى حوارٍ داخلي حول إعادة بناء الثقة مع الأشقاء، وهو ما يجبرها على إدارة شبكة علاقات واسعة ومتناقضة.
الكويت: بين استحقاقات الديمقراطية وضغوط الأمن
يواجه جهاز أمن الدولة الكويتي تحديًا هيكليًا نابعًا من التوتر القائم بين البنية السياسية المنتخبة – التي تمنح مجلس الأمة “البرلمان” سلطات رقابية على الأجهزة الأمنية، وبين الضغوط الأمنية المرتبطة بمكافحة التطرف الطائفي. ورغم أن الجهاز يعمل كوحدة صغيرة الحجم نسبيًا مقارنةً بنظرائه في دول الخليج، إلا أن دوره في حفظ الأمن الداخلي يظل محوريًا في السياق الكويتي.
شهدت الكويت منذ عام 2014 تصاعدًا ملحوظًا في وتيرة النشاط الاستخباراتي، تجلّى ذلك في تعزيز التعاون مع الأجهزة الأميركية والبريطانية، خصوصًا في ما يتعلق بتتبع تمويل الإرهاب. وتمكّن الجهاز من رصد التحويلات المالية المشبوهة، وتحديد مسارات يُشتبه في ارتباطها بدعم الفكر المتطرف داخل البلاد.
مع ذلك، ظل تحديد أولويات المواجهة محكومًا باعتبارات البرلمان وضغوطه السياسية. وقد شكّل القرار الأميري الأخير بتعليق بعض أحكام الدستور وتعطيل مجلس الأمة نقطة تحوّل مؤقتة أتاحت هامشًا أوسع للجهاز الأمني، في ظل استمرار النقاشات الداخلية حول التوازن المطلوب بين الاستقرار الأمني والحريات الدستورية.
تبقى القدرات التقنية لجهاز أمن الدولة الكويتي متواضعة مقارنةً بنظرائه في المنطقة، لا سيما في مجالات تحليل البيانات الضخمة والرصد الرقمي المتقدم، وهي فجوة تتسع مع تسارع وتيرة التحديث الأمني في دول كالسعودية والإمارات وقطر. ولذلك، تتأرجح قرارات الجهاز بين المحافظة على التوازن السياسي الداخلي والاستجابة الفعّالة للتهديدات الطارئة، وهو ما يجعل أداءه الإقليمي محدودًا من حيث المرونة والتأثير رغم فاعليته المحلية في ضبط الأمن العام.
البحرين: أمن وطني متداخِل بأبعادٍ طائفية
تعيش البحرين تجربةً فريدةً من نوعها في ضوء التداخل بين البعدين السياسي والطائفي؛ ففي بلدٍ يشكل فيه الشيعة أكثرية غير مُهيمنة ويسيطر على الحكم تحالفٌ سني، بالنتيجة، يعتُبر أي حراكٍ شعبيٍ شيعي امتدادًا طبيعيًا للتأثير الإيراني على البحرين.
منذ أحداث عام2011، تبنّى جهاز المخابرات الوطني منهجًا استخباراتيًا يُوصَف بـ “الحركي”، إذ يركّز على مراقبة شبكات التواصل الاجتماعي والتعاون مع شراكات خليجية واسرائيلية لتوفير برمجيات تنصّت متقدمة، وذلك لتعقب هواتف نشطاء المعارضة ثم تأتي خطوة الاعتقالات الاستباقية في محاولةٍ لتفكيك أي بوادر احتجاجية قبل أن تأخذ منحىً أكبر.
هذا المنهج لم يكن ليمرّ من دون تكاليف؛ إذ أدّى اعتماد الجهاز شبه الكلي على السعودية والإمارات في توفير الدعم التقني إلى هشاشة دائمة داخليًا. تنعكس هذه المعضلة بوضوح حين بدا الشارع الشيعي مقتنعًا بأن الأجهزة لا تستجيب لحقوقه الوطنية بل تتبنّى أولوياتٍ أمنية تلبي مخاوف السُّنة حيال النفوذ الإيراني.
وإلى جانب هذا الجهاز، يعمل جهاز الأمن الاستراتيجي تحت إشراف “مجلس الدفاع الأعلى”، ويُعنى بكل ما يتعلق بالتهديدات الاستراتيجية والأمنية الكبرى على مستوى الدولة وتنسيق العمليات الاستخباراتية مع الدول الصديقة والحلفاء، لاسيما في مجال مكافحة الإرهاب.
عسكرياً، تعمل إدارة الاستخبارات العسكرية ضمن هيكل قوة دفاع البحرين وتختص بجمع المعلومات الميدانية والاستراتيجية المتعلقة بالتهديدات المسلحة وتقديم تقديرات استخباراتية للقائد العام لقوة دفاع البحرين وتشغيل وحدات استطلاع جوي وبرمجي لدعم العمليات الميدانية ورفع تقارير حول أي نشاط عسكري مشبوه.
سلطنة عُمان: استخبارات حياد ونفوذ خفيّ
اختارت سلطنة عُمان مسارًا مغايرًا لما تعتمده جاراتها، وذلك بتوظيف أجهزتها الاستخباراتية كأداةٍ للحفاظ على سياسة الحياد والوساطة بدل الانخراط المباشر في الصراعات الإقليمية. تتيح شبكة اتصالات الاستخبارات العُمانية الحفاظ على قنوات مفتوحة مع الجميع: إيران من جهة، ودول الخليج والغرب من جهة أخرى. بلغ هذا الدور أوجه خلال مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني (JCPOA) بين 2013 و2015، حيث كانت عُمان ملاذًا لتمرير الرسائل الاستخباراتية بين واشنطن وطهران، وهو الدور ذاته الذي تمارسه اليوم بالتعاون مع وزارة الخارجية.
أما جهاز الأمن الداخلي فيضطلع بمسؤوليات حفظ الأمن الداخلي وجمع المعلومات الاستخباراتية داخل حدود السلطنة ومكافحة الإرهاب ومتابعة أي تهديدات قد تؤثر على الاستقرار الوطني، ويتبع هذا الجهاز “المكتب السُّلطاني” الذي يلعب الدور الأبرز في الإشراف على السياسات الاستخباراتية والتنسيق بين الأجهزة الأمنية في البلاد.
عسكريًا، تتبع “إدارة الاستخبارات العسكرية” هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة السلطانية، وتُعنى بجمع المعلومات الميدانية والإستراتيجية عن الموقف العسكري في المنطقة وتوفّر الإدارة تقديرات استخباراتية بشأن حركات القوات وتنسّق مع الحلفاء.
وتلعب قوات السلطان الخاصة، وهي قوة شبه عسكرية تابعة للقوات المسلحة السلطانية، دورًا محوريًا وتشترك في بعض مهام الأمن الداخلي والاستخبارات لكنها ليست جهاز استخبارات مستقل.
تحضى السلطنة بثقة عالية دوليًا جعلت من مسقط منبرًا استخباراتيًا محايدًا لا يثير الريبة لدى أي طرف. مكنتها هذه الثقة من حماية مصالحها لترسي بذلك قيمة “الحياد الاستراتيجي” كعنصر قوة وتأثير بالغين.
ثالثاً: المنظومة الاستخباراتية الإيرانية: كثير من العمل قليل من التنسيق
تعود جذور العمل الاستخباراتي المؤسسي في إيران إلى عهد الشاه محمد رضا بهلوي، الذي أنشأ جهاز “السافاك” في عام 1957 بدعم مباشر من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وجهاز الموساد الإسرائيلي، ليكون أداة رقابة داخلية صارمة ضد المعارضين والشيوعيين والقوميين، بالإضافة إلى تتبّع أي نشاط محتمل ضد النظام الملكي.
اشتهر السافاك بقسوته ضد المعارضين وقدرته العالية على التجسس الداخلي. ومع انتصار الثورة الإيرانية، جرى حلّ “السافاك” ليُؤسَّس بدلاً منه جهاز جديد يحمل طابعًا عقائديًا، وهو وزارة الاستخبارات والأمن القومي التي ظهرت للنور عام 1984، تولّت الوزارة مسؤولية إدارة الأمن الداخلي، مكافحة التجسس، والعمل الاستخباراتي الخارجي.
خضع هذا الجهاز لعمليات إعادة هيكلة متكررة لتتكيّف مع طبيعة الحكم الديني، فجمع بين المهام الكلاسيكية للأمن السياسي وبين متطلبات الدولة الثورية في بناء شبكات دعم خارج الحدود.
إلى جانب وزارة الاستخبارات، برز فيلق القدس التابع للحرس الثوري بوصفه جهازًا استخباراتيًا وعملياتيًا ذا طبيعة هجومية، يختص بإدارة الوكلاء في الخارج وتنفيذ العمليات السرّية والاغتيالات وتنسيق عمل الجماعات والتنظيمات المرتبطة بإيران. مع مرور الوقت، نشأت بين الجهازين حالة من الازدواجية الوظيفية، تارةً تكون هذه العلاقة تنافسية وتارةً تنسيقية.
يُعدّ الولاء للمرشد الأعلى وللثورة الإسلامية ومبادئها وأهدافها أحد المعايير الجوهرية في تجنيد العناصر، ما يمنح المنظومة عمقًا داخليًا في الانضباط لكنه يخلق أيضًا تحديات عند التعامل مع المؤسسات المدنية والقطاعات التكنوقراطية ويحدد فرص الترقي داخل الجهاز على المحسوبيات والمجاملات والتزكيات الصادرة عن كبار المسؤولين في الدولة.
تعاني إيران من تعدّد مراكز القرار الأمني، حيث تتداخل صلاحيات وزارة الاستخبارات وفيلق القدس وجهاز استخبارات الحرس الثوري و”استخبارات الشرطة”، ما يؤدي إلى ازدواج في المهام وتضارب في التحليل والعمليات. وهو ما تجلى بوضوح خلال الحرب مع إسرائيل في 13 يونيو 2025 حين فشلت هذه الأجهزة في رصد عشرات الخلايا الداخلية التابعة لإسرائيل التي كانت مجهزة بمعدات وطائرات مسيرة وأنظمة اتصالات متطورة، كما فشلت الأجهزة في التنبؤ بطيف الضربات الإسرائيلية التي طالت مسؤولين كبار في أجهزة الدولة العسكرية والسياسية.
رغم ذلك، أثبتت طهران قدرة متقدمة على إدارة الشبكات عبر الوكلاء، وخاصة من خلال استخدام ميليشيات عقائدية وحلفاء محليين، لتأمين مصالحها بعيدًا عن الانخراط المباشر فيما عُرف بـ”حرب الظل”. ورغم قوة الجهاز من حيث القدرة التشغيلية إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تسريبات واختراقات خطيرة، بعضها نسب إلى الموساد وكشفت عن ضعف في تأمين البنية الداخلية وتراجع في مستوى الانضباط والتنسيق.
طورت إيران، بالتوازي مع ضعفها التكنولوجي مقارنة بالغرب، أدوات هجومية سيبرانية فعالة (مثل فيروس شمعون، والهجمات على منشآت النفط السعودية) بالتعاون مع الحرس الثوري، ما جعل الاستخبارات الإيرانية لاعبًا مؤثرًا في ساحة الحرب الإلكترونية.