تكتسبُ منطقة شرق إيران أهمية استراتيجية كونها حلقة وصل بين إيران وكلٍّ من باكستان وأفغانستان. وخلاف أنها ممر طبيعي للتجارة وحركة الأفراد، تُعد المنطقة معبرًا رئيسيًا للأنشطة غير المشروعة مثل تهريب المخدرات والأسلحة.
من جهة أخرى، التنوع العرقي والديني حيث يشكل البلوش السنة غالبية سكان محافظة سيستان وبلوشستان، مقترنًا بالموقع الجغرافي والموارد الطبيعية، جعل من هذه المنطقة بؤرة حساسة في حسابات الدولة الإيرانية.
منذ بدايات القرن العشرين، اتسمت علاقة الدولة المركزية في طهران مع البلوش بالتوتر. في البدء، انطلقت سياسات الشاه من اعتبار المنطقة هامشًا أمنيًا أكثر منها فضاءً للتنمية، وهو ما عمّق شعور البلوش بالإقصاء. بعد الثورة الإسلامية عام 1979، ورغم شعارات المساواة والعدالة الاجتماعية، استمرت شكاوى البلوش من غياب التمثيل السياسي والاقتصادي ومن القيود الدينية، وهو ما عزز الإحساس بالتمييز المذهبي والعرقي.
أسست هذه التراكمات التاريخية بيئة مهيأة لظهور حركات احتجاجية سرعان ما تحولت إلى حركات مسلحة ذات طابع ديني وقومي. في مطلع الألفية، برزت جماعة جند الله كأول تنظيم سنّي متشدد شرق إيران، متأثرًا بالأيديولوجيات السلفية الجهادية وبالصراعات الإقليمية المتصاعدة. ساهمت مجموعة من العوامل، أبرزها التدهور الاقتصادي وسهولة انتشار الأفكار المتطرفة في بيئة مهمشة، في دفع هذه الجماعات إلى التوسع.
تشير إحصاءات عام 2016 إلى أن نحو 45٪ من سكان سيستان وبلوشستان يعيشون تحت خط الفقر المدقع، وأن معدل البطالة الحضري بلغ 14.4٪، بينما تقدّر مصادر محلية معدلات البطالة الحقيقية في بعض المناطق بين 40 و65٪. ورغم غياب بيانات دقيقة حول التمثيل في الوظائف الحكومية، تشير تقارير محلية إلى تهميش هيكلي مستمر بحق البلوش، وهو ما تنفيه طهران التي تؤكد أن التمثيل السياسي والاجتماعي لهذه القومية في مستوياته الطبيعية، بالنظر إلى كونهم أقلية في البلاد.
يستعرض هذا التقرير خصائص هذه الجماعات الأيديولوجية والتنظيمية، ويحلل مواردها المالية التي تجمع بين الأنشطة غير المشروعة والدعم الإقليمي المثير للجدل، كما يتناول أبرز عملياتها التي لم تعد تقتصر على ضربات حدودية محدودة، بل طالت أهدافًا حساسة كمقار الأمن والمحاكم، ومن ذلك هجوم محكمة زاهدان في يناير 2025.
كما يتطرق التقرير إلى جهود إيران في مواجهة هذا التحدي عبر المقاربات الأمنية والعسكرية والمبادرات السياسية والاجتماعية، مع إبراز دور الصراع السني الشيعي الإقليمي في تغذية الظاهرة وتعقيد معالجتها.
الأيديولوجيا والأدوات
تعتمد الجماعات السنية المتشددة شرق إيران على أيديولوجية سلفية جهادية تدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية من خلال الجهاد المسلح. وترى الجماعات أن الحكومة الإيرانية ذات الأغلبية الشيعية تمثل “نظامًا صفويًا” يجب إسقاطه واستبداله بحكومة سنية.
تتبنى الجماعات أفكارًا متطرفة مناهضة للشيعة وتعتبرهم في كثير من الأحيان “كفارًا” أو “مبتدعة” يستحقون القتال.
تنظيميًا، تلتزم الجماعات ببنية هرمية تعتمد على شبكات من الخلايا الصغيرة، ما يمنحها مرونة في العمل ويصعب من قدرة السلطات الأمنية على اختراقها. تستخدم الجماعات تكتيكات حرب العصابات، مثل الكمائن والهجمات الخاطفة والتفجيرات الانتحارية. غالبًا ما تتزامن مع العمليات حروب نفسية وإعلامية عبر نشر صور الهجمات لإظهار ضعف الدولة، ما يجعل العمليات الصغيرة تأخذ حيزًا إعلاميًا لا يخلو من التضخيم.
تعتمد الجماعات السنية على خطابين متوازيين، التشديد على المظلومية البلوشية داخليًا وتبني خطاب “نصرة السنة” خارجيًا.
يلاحظ تنوع أهداف ودوافع هذه الجماعات، ما بين تحقيق أكبر قدر متاح من الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية، وبين إقامة دولة بلوشية مستقلة. هناك أيضًا جماعات ذات أهداف أيديولوجية أوسع مثل إسقاط الحكومة الإيرانية وإقامة دولة إسلامية سنية.
جيش العدل Jaish ul-Adl: تأسس عام 2012 كخليفة لجماعة جند الله التي تم إضعافها بعد اعتقال وإعدام قائدها عبدالملك ريغي. يزعم جيش العدل بأن أهدافه هي “الدفاع عن حقوق البلوش السنة في إيران والسعي إلى استقلال ولاية سيستان وبلوشستان”. نفذ التنظيم عديد الهجمات ضد قوات الأمن الإيرانية، بعض العمليات أوقعت خسائر كبيرة.
اليوم، يعتبر جيش العدل الفصيل الأكثر نشاطًا وتأثيرًا بين الجماعات السنية المتشددة، وهو يتبنى أيديولوجية مناهضة للشيعة ويسعى إلى تحقيق أهداف قومية ودينية. مؤخرًا، طور اجيش العدل عملياته من الكمائن التقليدية إلى هجمات مركبة تشمل تفجيرات وانتحاريين لتصعيد التهديدين السياسي والأمني.
أنصار الفرقان Ansar Al-Furqan: تأسس عام 2013 نتيجة اندماج حركتي أنصار إيران وحزب الفرقان ويسعى إلى تحقيق أهداف تتجاوز الحدود الإيرانية. يتبنى التنظيم أيديولوجية سلفية جهادية ويرتبط بتنظيم القاعدة.
نفذ أنصار الفرقان عديد العمليات التي استهدفت قوات الأمن الإيرانية والبنية التحتية في منطقة سيستان وبلوشستان، بالإضافة إلى عمليات أخرى في مناطق مختلفة من إيران.
يعكس تركيز التنظيم على استهداف البنية التحتية للطاقة استراتيجية إلى إحداث شلل اقتصادي وأمني في المنطقة.
جند الله Jundallah: تأسس على يد عبد الملك ريغي. نفذ التنظيم عديد الهجمات التي استهدفت قوات الأمن والمدنيين قبل أن يتم إضعافه بشكل كبير نتيجة اعتقال وإعدام قائده في عام 2010. ورغم تفككه، يعتبر جند الله النواة التي نشأت منها الجماعات السنية المتشددة اللاحقة في شرق إيران ولا تزال أفكاره وأساليبه منتشرة.
حركة أنصار إيران Harakat Ansar Iran: نشطت هذه الحركة في الفترة ما بين عامي 2012 و2013، ثم اندمجت مع حزب الفرقان لتشكيل جماعة أنصار الفرقان. كانت حركة أنصار إيران تهدف إلى معارضة الجمهورية الإسلامية في إيران والسعي إلى تحقيق مطالب السنة. رغم قصر فترة نشاطها المستقل إلا أن هذه الحركة مثلت مرحلة انتقالية مهمة في تطور الجماعات السنية المتشددة، حيث ساهم اندماجها في تشكيل تنظيم أكثر قوة وتماسكًا.
جيش الصحابة: جماعة سنية متشددة صغيرة لكنها تحمل بعدًا أيديولوجيًا مهمًا إذ تركز الجماعة على تطبيق الشريعة الإسلامية في إطار قومي سني وتتبنى خطابًا مناهضًا للشيعة مشابهًا لما تعتمده جماعات مثل جيش العدل، لكنها أقل تنظيمًا وأقل قدرة على تنفيذ هجمات كبيرة. يُعتقد أن الجيش يستفيد من التحالفات المؤقتة مع فصائل أخرى لتنفيذ عمليات محدودة ضد قوات الأمن الإيرانية. يركز التنظيم عملياته في مناطق ريفية وبعيدة عن المراكز الحضرية لتجنب المواجهة المباشرة مع القوات الحكومية. رغم قلة عملياته، يشكل جيش الصحابة جزءًا من النسيج المتشدد وتعدد الأيديولوجيات.
التمويل: اقتصاد ظل متشابك
يعتمد تمويل الجماعات المتشددة شرق إيران على اقتصاد ظلٍّ متشابك يجمع بين أنشطة إجرامية محلية والموارد العابرة للحدود. تبدأ السلسلة بتهريب المخدرات من جنوب أفغانستان عبر صحراء سيستان إلى عقود التوزيع داخل الأراضي الإيرانية، حيث تُفرض على الشحنات “رسوم مرور” مقابل الحماية والتغاضي.
تشكّل الخلايا اللوجستية المحلية على الجانبين الإيراني والباكستاني العمود الفقري لهذه السلاسل، معتمدَةً على مسارات بديلة ودراجات وشاحنات صغيرة ومحطات إخفاء على محاور (زاهدان – خاش – سراوان) وصولاً إلى ساحل مكران لتفادي نقاط التفتيش.
تُحوَّل جزء من هذه العوائد نقدًا عبر شبكات الحوالة غير الرسمية أو عبر شراء الذهب والعملات الصعبة في مراكز حدودية مثل تشابهار وزاهدان، ما يقلّل من أثر المتابعة المصرفية ويسهّل تمويل الرواتب وشراء الأسلحة.
كما يشكل تهريب المشتقات النفطية رافدًا ثابتًا للتمويل، تشتري الجماعات منتجات مدعومة داخل إيران ثم تقوم بتهريبها إلى باكستان وأفغانستان بفوارق سعرية كبيرة، كما تفرض الجماعات على قوافل الناقلين “رسوم حماية” تُضاف إلى إيراداتها.
تتداخل هذه الإيرادات مع ممارسات ابتزاز محلية تشمل نقاط جباية مؤقتة وجمع تبرعات قسرية واختطاف المدنيين لأجل دفع مبالغ فدية باهظة، بالتوازي، تُستخدم شبكات التهريب في شراء السلاح من أسواق حدودية.
تؤكد طهران وجود “دعم خارجي” مشيرة إلى وجود ملاذات وتمويل وتدريب من جهات إقليمية أو فاعلين داخل باكستان، لكن الأدلة على الدعم المنظّم ما زالت غير حاسمة، وغالبًا ما تختلط بالدعاية المتبادلة بين طهران وإسلام آباد.
كخلاصة، تشكل مصادر التمويل منظومة هجينة تمنح الجماعات درجة من الاستمرارية والمرونة عبر تأمين موارد محلية منخفضة المخاطر توفر القاعدة المالية اليومية، تُكمّلها تدفقات طارئة مخصصة للعمليات النوعية، ما يصعّب مقاربة تفكيك التمويل عبر أي استجابة أمنية تقليدية.
ثنائية المواجهة والاحتواء
تواجه السلطات في إيران تحديات أمنية متزايدة حيث تنشط هذه التنظيمات. فبالإضافة إلى التوترات العرقية والمذهبية، تعاني المنطقة من معدلات بطالة مرتفعة ومستويات تنمية متدنية ما يخلق بيئة خصبة للاستياء والتطرف.
تعتمد إيران استراتيجيات متعددة لمكافحة هذه الجماعات. وإلى جانب تكثيف وجودها العسكري والأمني في المنطقة خاصة من خلال قوات الحرس الثوري التي تنفذ عمليات لمكافحة الإرهاب بشكل مستمر، تحاول طهران الوصول إلى معالجة بنيوية للأزمة.
تلعب عوامل مذهبية وعرقية دورًا مهمًا في تشكيل سياسة إيران في هذه المنطقة. يشكل البلوش السنة غالبية سكان سيستان وبلوشستان ويشاركون الإقليم مع الفرس والسيستانيين الذين ينتمون في الغالب إلى المذهب الشيعي.
أدت مظالم البلوش المتعلقة بالتمييز المذهبي والعرقي الديني إلى زيادة التوتر في المنطقة. ورغم اعتراف بعض المسؤولين الإيرانيين بوجود تمييز ضد السنة إلا أن التغييرات الجوهرية على أرض الواقع لا تزال محدودة، مما يشير إلى وجود مقاومة من قبل المؤسسات المتشددة في الدولة. قبالة ذلك، تنتشر الدعاية السياسية والتضليل الإعلامي والتقارير التي تبالغ في تقدير أزمة الفقر وصولاً إلى ادعاءات منع بناء المساجد للطائفة السنية.
يبلغ عدد النواب من محافظة سيستان وبلوشستان في البرلمان الإيراني نحو 8 إلى 10 مقاعد (يتغيّر العدد عبر الدورات تبعًا لتعداد السكان وإعادة التوزيع)، وعادة ما تُنتخب شخصيات سُنية ذات حضور ونفوذ قبلي في المحافظة. تؤكد طهران على أن المشكلة ليست “إقصاءً منهجيًا” بل تراكمات فقر وتراجع تنموي في منطقة صحراوية صعبة جغرافيًا، على غرار مناطق نائية أخرى في إيران.
تتهم إيران بشكل دولًا أجنبية مثل الولايات المتحدة ودولاً غربية وباكستان وبعض دول الخليج بدعم هذه الجماعات بهدف إثارة الفتنة الطائفية وتقويض الأمن. بالتوازي، تركز إيران على التعاون مع باكستان في مجال مكافحة الإرهاب وأمن الحدود عبر إنشاء خطوط اتصال وتنسيق للعمليات المشتركة وتبادل المعلومات الاستخباراتية، كما وينشط الحرس الثوري بوضوح في المحافظة.
تصف إيران جماعات مثل جيش العدل بأنها “إرهابية” ومرتبطة بتنظيمات مثل داعش خراسان، وتؤكد على تلقي هذه الجماعات دعمًا من الخارج. وتشدد على أن إيران كانت ولا تزال ضحية للإرهاب.
يؤدي نهج إيران الأمني الصارم أحيانًا إلى نتائج عكسية؛ وهو ما تستغله الجماعات في اعتبارها ما يحدث اضطهادًا ممنهجًا.
كما يلاحظ أن غالبية المشاريع التنموية التي تعلنها إيران لا تتجاوز الخطاب الإعلامي، مما يعزز من فقدان الثقة لدى السكان.
الديناميات الإقليمية
لا يمكن النظر إلى الوضع الأمني في شرق إيران باعتباره ملفًا داخليًا صرفًا؛ إذ يتأثر بعمق بالتفاعلات الإقليمية والدولية المحيطة.
العلاقات الإيرانية الباكستانية: تتخذ إسلام آباد موقفًا رسميًا يدين الهجمات الإرهابية ضد إيران، وتؤكد على الشراكة في مكافحة الإرهاب وأمن الحدود. رغم ذلك، تتهم طهران جارتها بإيواء عناصر من الجماعة والسماح لهم بشن عمليات عبر الحدود، وهو ما يخلق توترًا مستمرًا انعكس في تبادل القصف الحدودي في يناير 2024.
تشير تقارير مستقلة إلى أن بعض الجماعات تجد بالفعل ملاذًا في المناطق القبلية الباكستانية، دون أن يكون ذلك دعمًا رسميًا من السلطات السياسية والعسكرية في إسلام آباد.
البعد الطائفي الإقليمي: يشكّل الصراع السني الشيعي في المنطقة أرضية خصبة لخطاب الجماعات المسلحة. توظف الجماعات الانقسامات الطائفية لتعبئة الأنصار واستقطاب الدعم، فيما تستخدم طهران هذه الاعتداءات لتأكيد روايتها بأنها ضحية للإرهاب العابر للحدود مما يعزز من قوة ورقتها الدبلوماسية. في مراحل سابقة، مثل فترة التوتر السعودي الإيراني، وفّرت الانقسامات الطائفية مادة دعائية لهذه الجماعات لتصوير نفسها كجزء من صراع أوسع بين السنة والشيعة.
تأثير أفغانستان وعودة طالبان: أدت عودة طالبان إلى السلطة إلى إعادة تشكيل البيئة الأمنية شرق إيران.
شبكات تهريب المخدرات والأسلحة لم تختفِ مع سياسات الحظر التي أعلنتها طالبان، لكنها أعادت توجيه مساراتها للحفاظ على العوائد. قلص وجود طالبان في الحكم الحواجز السياسية أمام مرور الأفراد والأسلحة عبر الشبكات القبلية الممتدة بين دول المنطقة، كما تشير مصادر غربية إلى أنه سهّل انتقال مقاتلين ذوي خبرة إلى محيط سيستان وبلوشستان وفي استعادت طرق قديمة من هلمند ونيمروز نحو إيران والتي أصبحت مسرحًا لتهريب الهيروين والمواد الخام (Global Initiative) .
دول الخليج: تكرّر بعض وسائل الإعلام الإيرانية اتهاماتها لبعض دول الخليج بتقديم دعم مالي أو لوجستي للجماعات البلوشية، لكن الأدلة الموثقة لا تزال محدودة، ولا ترقى إلى إثبات دعم رسمي ومنظم.
إسرائيل: تقدّم وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية إسرائيل كفاعل خلفي في ملف شرق إيران.
في عام 2014، نشرت وكالة تسنيم الحكومية تقارير تتحدث عن علاقات بين الموساد وجيش العدل، كما ربط وزير الخارجية الأسبق أمير عبد اللهيان (يناير 2024) بين نشاط الموساد في كردستان وتحركات الجماعات المتشددة داخل باكستان. رغم ذلك، لا تبدو الأدلة المنشورة حتى الآن حاسمة.
خلاصة
تُظهر المعطيات أنّ شرق إيران لم يعد مجرّد ملفّ أمنيّ على تخوم الدولة الإيرانية بل تحوّل إلى منطقة ملتهبة تتقاطع فيها هشاشة التنمية مع اقتصاد الجريمة والتنظيمات المتطرفة العابرة للحدود.
ورغم ما تبديه طهران من قدرة على الاحتواء التكتيكي، يظلّ الخلل البنيوي قائمًا بما يفتح الباب خلال الأشهر والسنوات المقبلة على مسارات متباينة تتراوح بين “احتواء متوتّر” و”تصعيد متدرّج” قد يصل إلى “أقلمة النزاع” وتدويله.
في السيناريو الأوّل، قد يبقى العنف متقطّعًا ومركّزًا جغرافيًا مع ضربات متباعدة زمنيًا تطال أجهزة أمنية وقضائية وبعض البنى المحلية، يغذّي هذا المسار استمرار القبضة الأمنية بالتوازي مع مشاريع تنموية رمزية وفاعلية التنسيق الحدودي والتعاون الاستخباراتي والعسكري مع باكستان.
في سيناريو التصعيد، من المتوقع أن تنتقل بعض الفصائل من الكمائن الكلاسيكية إلى هجمات مركّبة تستخدم عبوات أكثر تطورًا وانتحاريين لضرب مصالح خدماتية كالمحاكم ومحطات الكهرباء والطرق اللوجستية، مدفوعةً بتزاوج أعمق بين اقتصاد التهريب وبمساعدة من خبرات وقدرات أفغانستان وتنظيم “داعش–خراسان” في ظل تكرار حالات الاشتباك وضعف التنسيق بين طهران وإسلام آباد.
من المتوقع أن يتقدّم سيناريو “الأقلمة والتدويل” في حال تدهورت علاقات إيران مع باكستان أو طالبان. وقتئذ؛ تغدو مسارح التهريب والملاذات الخلفية أكثر انكشافًا واتساعًا لتُستخدم كأوراق ضغط.
معالجة هذا الملف تتطلب من إيران تقديم سلة من إصلاحات سياسية ومبادرات تنموية وإدارية أكثر جدّية تضرب جذور الفقر والبطالة وتوسّع الإدماج السياسي والوظيفي والأمني المحلي وتفعّل آليات تظلّم قضائية، ويُقرأ الانفراج حين تتحوّل الوعود إلى بنى منجزة.
في خلفية ذلك كلّه، تتبدّى المنطقة كـ “خاصرة رخوة” يمكن لخصوم إيران الاستثمار فيها لإشغال الحكومة الإيرانية داخليًا؛ فحتى مع غياب أدلة قاطعة علنية، يظلّ منطق حروب الظلّ مغريًا بتعظيم كلفة الأمن الداخلي عبر تضخيم روايات الفشل التنموي والتمثيلي.
من زاوية الإنذار المبكر، يمكن لطهران أن تعتبر أي قفزات فجائية في نوعية العبوات والمسيّرات أو أي تغيّر في نمط الأهداف نحو البنى المدنية والقضائية، كذلك أي طفرة في السيولة المالية في يد هذه التنظيمات، دلائل قاطعة ومهمة لرصد المنعطفات المقبلة والبحث في التدخلات الداعمة لهذه التنظيمات من خارج الحدود.
