تعتبر المرجعية الدينية الشيعية واحدة من أهم المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي، خاصة في المذهب الشيعي الاثني عشري.
تلعب هذه المرجعية، التي تتمحور حول مراكز دينية رئيسية في النجف (العراق) وقم (إيران)، دورًا كبيرًا في حياة الملايين من الشيعة حول العالم، بما في ذلك المواطنين الشيعة في دول مجلس التعاون الخليجي. ومع ذلك، فإن العلاقة بين المرجعية الدينية الشيعية ودول الخليج هي علاقة معقدة ومليئة بالتحديات والشكوك، خاصة في ظل التوترات الإقليمية بين إيران ودول الخليج.
يهدف هذا التقرير إلى تحليل هذه العلاقة من خلال الإجابة على عدة أسئلة رئيسية، مع التركيز على الجوانب السياسية والأمنية والدينية.
هل تمثل المرجعية الشيعية خطرًا أمنيًا على استقرار دول الخليج؟
العلاقة بين المرجعية الدينية الشيعية ودول مجلس التعاون الخليجي هي علاقة متشابكة، حيث تتداخل فيها العوامل الدينية مع السياسية والأمنية.
لا يمكن الإجابة على هذا السؤال بشكل قاطع، إذ أن الخطر الأمني يعتمد على السياق السياسي والإقليمي من جهة، وعلى السياق الديني العبادي من جهة أخرى.
السياسة الإيرانية: تُستخدم المرجعية الدينية أحيانًا كأداة لتعزيز النفوذ الإيراني في المنطقة. إيران، التي تعتبر نفسها حامية للشيعة في العالم والدولة التي تمثل هذه الطائفة وترعى مصالحها والدفاع عنها، تستخدم الخطاب الديني لتبرير تدخلاتها في دول مثل اليمن (من خلال دعم أنصار الله الحوثيين) والبحرين (من خلال دعم المعارضة الشيعية).
هذه الجماعات تعتمد على المرجعية الدينية الشيعية لتبرير تحركاتها السياسية والعسكرية، وهو ما يزيد من مخاوف دول الخليج من أن تكون المرجعية الدينية أداة لزعزعة الاستقرار الداخلي.
المراجع المستقلة: من ناحية أخرى، هناك مراجع دينية شيعية مستقلة، مثل آية الله السيد علي السيستاني في النجف، تتبنى خطابًا معتدلًا وترفض فكرة “تصدير الثورة” الإيرانية. يرفض مراجع النجف التقليديين التدخل في الشؤون السياسية للدول الأخرى ويدعون إلى الاعتدال والحوار بدلًا من المواجهة. السيستاني، على سبيل المثال، لعب دورًا محوريًا في تهدئة الأوضاع في العراق بعد الغزو الأمريكي عام 2003، ودعا إلى الوحدة الوطنية ورفض العنف الطائفي.
وعليه، الخطر الأمني الذي تمثله المرجعية الدينية الشيعية ليس خطرًا دينيًا في جوهره، بل هو خطر سياسي مرتبط بمدى توظيف إيران للروابط المذهبية بين المواطنين الشيعة والمرجعية الدينية لتحقيق أهدافها الجيوسياسية. لذلك، فإن الخطر يعتمد على السياق السياسي والإقليمي، وليس على الدين نفسه.
هل يجب أن يكون للمواطنين الشيعة مراجع دين في إيران والعراق؟
في ظل غياب مراجع محليين، يلجأ المواطنون الشيعة في دول الخليج إلى تقليد مراجع دينية في إيران والعراق.
يتطلب الانتماء إلى المذهب الشيعي الاثني عشري تقليد مرجع ديني حي، وهو ما يُعرف داخل المنظومة الدينية الشيعية بـ “التقليد”، والتقليد نظام فقهي يلزم عوام الناس باتباع فتاوى مرجع ديني معين في الأمور الشرعية.
تعتبر المراكز “الحوزات” الدينية التاريخية في النجف (العراق) وقم (إيران) الأبرز في العالم الشيعي، ما يجعلها وجهة طبيعية للعوام من الشيعة. تتمتع هذه المراكز بتاريخ طويل من الإنتاج الفكري والفقهي، وهو ما يجعلها مرجعًا موثوقًا للشيعة حول العالم.
لا يوجد في دول الخليج مؤسسة/ حوزة دينية شيعية مستقرة أو معترف بها على نطاق واسع. هذا الافتقار نتج عنه الافتقار إلى مراجع دينية محلية، وهو ما يدفع المواطنين الشيعة إلى اللجوء إلى مراجع خارجية في إيران والعراق. ويعكس عدم وجود مراجع دينية محلية تاريخًا من التهميش السياسي والاجتماعي للشيعة في بعض دول الخليج تارة ومخاوف بعضها الآخر من أن تتحول هذه الحوزات إلى منصات تبشير للمذهب الشيعي.
يذكر أن البحرين والسعودية كانتا تحتضن مرجعيات محلية عابرة للحدود، ومنهم مراجع دين تعتبر كتبهم مراجع أساسية وملزمة لجميع طلبة الدين في قم والنجف حتى اليوم، منهم الشيخ يوسف البحراني (1695-1772) والشيخ حسين العصفور (توفي عام 1801) والذي امتدت مرجعيته إلى خارج البحرين وشملت غالبية دول الخليج.
ولا تقتصر هذه الإشكالية على دول الخليج، فالشيعة المنتشرون حول دول العالم يعودون في مسألة التقليد إلى مراجع العراق وإيران، لا ينفي ذلك وجود مرجعيات محلية في باكستان وأفغانستان ودول أخرى.
ما هو الفارق بين المرجع الديني والولي الفقيه، وهل هناك إجماع على ولاية الفقيه؟
الفرق بين المرجع الديني والولي الفقيه هو فرق جوهري في الفكر الشيعي، وله تداعيات سياسية حساسة ومعقدة.
المرجع الديني (المرجعية): هو شخصية دينية تتمتع بسلطة في الفقه والأحكام الشرعية لكنها لا تتدخل بالضرورة في الشؤون السياسية. على سبيل المثال، يعتبر آية الله السيستاني مرجعًا دينيًا تقليديًا نادرًا ما يتدخل في الشؤون السياسية بشكل مباشر رغم تأثيره الملحوظ على الشأن العام في العراق.
الولي الفقيه (ولاية الفقيه): ولاية الفقيه بمعناه الحديث هي نظرية سياسية ويبرز الإمام آية الله الخميني باعتباره أهم منظريها، وتجمع النظرية بين السلطتين الدينية والسياسية. ووفقًا لدستور إيران (المادة 5)، فإن الولي الفقيه هو القائد الأعلى للدولة ويتمتع بسلطات واسعة في إدارة الشؤون السياسية والعسكرية.
هذه النظرية تعتبر مثيرة للجدل داخل العالم الشيعي. وهي ليست وليدة التجربة السياسية الإيرانية بل أقدم من ذلك بكثير. تأسيسًا، كان وجود المرجعية وتصديها للأحكام الشرعية والفقهية والقضاء يمنحها بالضرورة ولاية من نوع ما، وهو مفهوم عمل المحقق الكركي (توفي في 940 للهجرة) على تأصيله باعتبار المرجع الديني ممثلاً سياسياً للإمام الثاني عشر المتواري عن الأنظار بحسب معتقدات الشيعة، ويعتبر الشيخ النراقي (توفي في 1245 للهجرة) أول الذين تحدثوا بوضوح عن ولاية الفقيه المطلقة.
يُذكر أنه لا يوجد إجماع على ولاية الفقيه داخل المذهب الشيعي. فمراجع النجف التقليديون، مثل آية الله الخوئي، رفضوا هذه النظرية باعتبار المرجع يملك ولاية مطلقة بينما أيدتها مراجع قم، مثل الخميني والخامنئي ومكارم الشيرازي. بالتوازي، يذهب التيار الرسالي (الشيرازي) إلى تأييد نظرية شورى المراجع. وعليه، ولاية الفقيه ليست نظرية مجمعًا عليها بل هي قضية مثيرة للجدل وينقسم الشيعة حولها بين مؤيد ومعارض.
هل يلعب مراجع الدين أدوارًا سياسية؟
لعبت بعض المرجعيات الدينية الشيعية أدوارًا سياسية لكن بدرجات متفاوتة. على سبيل المثال:
الإمام الخميني: يعتبر آية الله الخميني مثالًا بارزًا على المرجع الديني الذي قاد تحولًا سياسيًا كبيرًا. قاد الخميني الثورة الإيرانية عام 1979 وأسس نظامًا سياسيًا يجمع بين الدين والدولة تحت مظلة ولاية الفقيه. استخدم الخميني الخطاب الديني لتعبئة الجماهير ضد نظام الشاه، وهو ما أدى إلى تغيير جذري في النظام السياسي الإيراني.
السيد السيستاني: لعب آية الله السيستاني في العراق دور سياسي حاسم في مرحلة ما بعد غزو العراق عام 2003. تدخل السيد السيستاني لإقرار الدستور العراقي عام 2005 ورفض الاحتلال الأمريكي لكنه حافظ على حياد نسبي في الشؤون السياسية اليومية.
مراجع معارضة: بعض المرجعيات الدينية دعمت حركات معارضة في دول الخليج. على سبيل المثال، آية الله محمد الشيرازي (توفي في 2001) الذي دعم احتجاجات شيعية في البحرين والسعودية عبر خطاباته الدينية.
وكانت بعض دول الخليج العربية، منها البحرين والكويت والسعودية، قد استفادت من بعض تدخلات المرجعيات الدينية الشيعية، على سبيل المثال، في العام 1968 زار أمير البحرين آنذاك، الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، المرجع الديني الشيعي السيد محسن الحكيم وهي الزيارة التي تمخض عنها توجيه المرجع الحكيم للمواطنين الشيعة في البحرين للتصويت على استقلال البحرين ونقض التبعية لإيران. كذلك تجدر الإشارة إلى مواقف مراجع الدين الشيعة من غزو الكويت.
هل تشترط المرجعية الدينية الولاء لبلد المرجع؟
بشكل عام، لا تشترط المرجعية الدينية الولاء لبلد المرجع بل إن غالبية الوصايا تتجه إلى ضرورة التزام المقلدين بقوانين الدولة المحلية. ووفقًا للفقه الشيعي، فإن طاعة “السلطان العادل” هي واجب ديني لكن إذا كان الحاكم ظالمًا، فإن الاعتراض عليه يصبح جائزًا. معظم المراجع الدينية، مثل آية الله النائيني، يدعون إلى عدم خلط الولاء الديني بالولاء الوطني.
يحدث في بعض الأحايين أن يحدث تعارض بين فتوى مرجع ديني خارجي وقوانين الدولة المحلية، وشواهد ذلك كثيرة. هذا التعارض غالبًا ما يتسبب في توتر العلاقات بين المواطنين الشيعة وحكوماتهم في بعض الدول، خاصة في دول الخليج حيث تكون الهوية الوطنية والانتماء المذهبي ملفًا حساسًا وشائكًا.
يتداخل موضوع الولاء لبلد المرجع وملف آخر لا يقل أهمية وهو تعاطف المواطنين الشيعة في دول الخليج مع إيران التي تلعب دور الدولة المركزية للشيعة حول العالم. وهو تعاطف تؤكد دول الخليج أن إيران تستثمر فيه سياسياً وهو ما تسبب في خروج حركات معارضة، سياسية وعنيفة في بعض البلدان، وبالخصوص البحرين والكويت والسعودية.
هل تبدو مخاوف دول الخليج موضوعية؟
مخاوف دول الخليج من تأثير المرجعية الدينية الشيعية هي مخاوف موضوعية بلا شك، رغم ذلك، هي مخاوف تفتقر لفهم طبيعة ومفهوم المرجعية الدينية والتقليد من جهة، وقد تكون مبالغ فيها في بعض الأحيان.
هناك أدلة لا تحتمل الشك على محاولات إيران استغلال الانتماء المذهبي لتحقيق أهداف سياسية. على سبيل المثال، قضية “خلية حزب الله” في الكويت عام 2015 حيث أظهرت كيف يمكن استخدام الخطاب الديني والولائي لتجنيد أفراد لتنفيذ عمليات تخريبية، كذلك حزب الله البحرين وحزب الله الحجاز وأحداث البحرين عام 2011 وأحداث العوامية في السعودية (2012).
تعتقد النخب الشيعية في دول الخليج أن المخاوف الحكومية من تأثير المرجعية الدينية تُستخدم أحيانًا لتبرير القمع الداخلي ضد الشيعة في بعض دول الخليج. كما أن حكومات دول الخليج ينتظرون من نخب مواطنيهم الشيعة موقفًا أكثر وضوحًا وحسمًا في ملف العداء مع إيران، وهو ما يضع هذه النخب – في بعض الأحايين – في موقف مواجهة مباشر مع مرجعيات دينية وازنة في إيران.
تمثل الحرب في اليمن نموذجًا واضحًا لهذه الإشكالية المعقدة، قبالة الحرب التي خاضتها السعودية ومعها غالبية دول الخليج ضد الحوثيين (زيديون) في مارس 2015، كانت مواقف إيران ومراجع الدين الشيعة متسقة ضد هذه الحرب، نتج عن هذا التناقض في المواقف احجام غالبية المواطنين الشيعة في دول الخليج عن تأييد هذه الحرب أو التفاعل معها بإيجابية، قبالة ذلك، اعتبرت بعض دول الخليج موقف غالبية مواطنيها من الشيعة دلالة على انزياحهم لعدو في زمن الحرب. وهو موقف معقد يمكن تطبيقه على الموقف الخليجي من حزب الله (لبنان) والحشد الشعبي (العراق).
خلاصات
إن الزعم بوجود حل جذري لهذه الملف المعقد لا يبدو ممكنًا، تبدو معالجة هذا الملف عملية معقدة تحتاج في البدء إلى الفصل بين المرجعية الدينية الشيعية باعتبارها جزءً من العقيدة الشيعية وبين ولاية الفقيه، مطلقة كانت أو مقيدة، في مجالها السياسي.
تعزيز وخلق مرجعيات دينية محلية: إن دعم ورعاية مؤسسات دينية وحوزوية في دول الخليج من شأنه – بعد عقود – الخروج بمراجع دينية خليجية، وهو ما يمكن له أن يقلل من الارتباط القائم بمراجع الدين في العراق وإيران.
الإصلاحات السياسية: إن من شأن الإصلاحات السياسية المتوافقة مع طبيعة الحكم الملكي في دول الخليج بما يضمن الاعتراف بالمكونات المجتمعية ومنهم الشيعة، أن يساهم بشكل فاعل في سد أي ثغرات يمكن لإيران الولوج منها إلى داخل هذه المجتمعات، تجدر الإشارة هنا إلى طبيعة تموضع الشيعة في دول مثل سلطنة عمان والإمارات وقطر حيث يبدو التأثير الخارجي على المكونات الشيعية فيها محدودًا للغاية.
فهم أفضل وحوارات وطنية: إن من شأن تشجيع الحوار بين السنة والشيعة لتخفيف الخطاب الطائفي وطرح المخاوف والشكوك، كذلك السماح بحوار مسؤول داخل المكون الشيعي نفسه بهدف رفع مستوى الوعي بأهمية الفصل بين التقليد والمرجعيات الدينية وحاكمية الدول المحلية من شأنه تعزيز الهويات الوطنية والانتماء الوطني على حساب الهويات الدينية الفرعية.
ضمانات خليجية وإيرانية: إن حوارًا مفتوحًا وشفافًا بين دول الخليج العربية وإيران بهدف تثبيت مسار علاقات مبنية على الاحترام المتبادل ومنع التدخل في الشؤون الداخلية لدول الخليج والتوقف عن أي استفزازات بين الطرفين، من شأنه التخفيف من مظاهر الاحتقان والشكوك المتزايدة بين الجانبين.