منذ سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024 بعد هجوم واسع شنته قوات المعارضة السورية المسلحة، بسط قائد هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع، سيطرته على مقاليد السلطة في دمشق. في 29 يناير 2025، تولى أحمد الشرع منصب رئاسة الجمهورية السورية للمرحلة الانتقالية، مستفيدًا من دعم تركيا وأغلب دول الخليج وعواصم غربية في بيئة خصبة بالتدخلات الإقليمية والدولية الطامحة لبسط نفوذها على البقعة الجغرافية التي خسرتها طهران فجأة.
القوى الإسلامية السنية التي سيطرت على المشهد السياسي في البلاد، والتي كانت ولا تزال، تُحاول إعادة تقديم نفسها باعتبارها سلطة أمينة على التنوع الديني والإثني والثقافي في سوريا لم تستطع مقاومة شهوة السلطة، نتج عن ذلك هيمنة كاسحة للإسلاميين على مفاصل الدولة مع تمثيل شرفي لبقية المكونات؛ المسيحيين والعلويين والدروز.
وإلى جانب دول الخليج الطامحة في مد نفوذها ولمنع سوريا من أن تتحول إلى بؤرة تهدد الأمنين الإقليمي والدولي، تبرز عدة عوامل مؤثرة وفاعلة في مستقبل سوريا، أبرزها النفوذ التركي الذي يهيمن على قرار دمشق اليوم، كذلك موقف الولايات المتحدة وإسرائيل التي وسعت من نفوذها الجغرافي عبر قضم المزيد من الأراضي السورية.
النفوذ التركي: مكاسب وتحديات
دعمت أنقرة الفصائل المُسلحة ووسعت نفوذها في الشمال السوري تحت ذرائع مختلفة، مثل محاربة التنظيمات الكردية المسلحة ومنع تدفق اللاجئين إلى أراضيها. قبل ذلك، كانت تركيا البوابة التي عبرت من خلالها أطنان من الأسلحة التي استقرت في أيدي المقاتلين المنخرطين في تنظيمات المعارضة، كذلك كانت الممر لمرور عشرات الآلاف من المقاتلين العرب والأجانب. بالنتيجة؛ تركيا اليوم هي الدولة الأكثر تأثيرًا على دمشق بل يمكن القول إنها من يتولى هندسة المشهد السياسي كله.
تجدُ تركيا نفسها في وضع يٌمّكنُها من لعب دور رئيسي في تحديد مستقبل سوريا، حيث أصبحت شريكًا رئيسيًا للحكومة الجديدة. وهو ما قد يؤدى إلى توتر علاقاتها مع بعض الدول الإقليمية والدولية التي تخشى من استخدام أنقرة لنفوذها لتعزيز مشروعها الإقليمي، القائم على دعم الجماعات الإسلامية وتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي في المنطقة، تجدر الإشارة هنا إلى العراق ومصر والإمارات والسعودية باعتبارها أكثر الدول ترقبًا وقلقًا.
ورغم أن تركيا تسعى إلى فرض نفسها كقوة حامية للنظام الجديد، فإنها تواجه تحديات كبيرة، منها الصراعات الداخلية بين الفصائل المسلحة والتدخلات الإقليمية والدولية. كما أن هذا النفوذ التركي يثير قلقًا متزايدًا لدى الولايات المتحدة وإسرائيل، اللتين تعتبران التوسع التركي في سوريا يهدد مصالحهما الاستراتيجية في المنطقة.
المخاوف الأمريكية والإسرائيلية
تنظرُ الولايات المتحدة وإسرائيل بقلق إلى صعود نظام وصفته الدوائر الإسرائيلية غير ذات مرة بـ “الإسلامي والمتطرف”، ترى واشنطن أن ذلك قد يهدد مصالحها في المنطقة ويفتح الباب أمام انتشار الجماعات الإرهابية، كما أن سيطرة الإسلاميين المتشددين على مقاليد السلطة قد تؤدي إلى تقويض الجهود الأمريكية في محاربة الإرهاب، وخلق بيئة غير مستقرة تهدد الدول المجاورة. رغم ذلك، يمكن القول إن الولايات المتحدة – حتى الآن – لم تتخذ أي خطوات عدائية تجاه النظام الجديد بل لعلها بدأت فعلاً في تقديم الجزرة على العصا.
بالنسبة لإسرائيل، تعتقد تل أبيب أن نظام الشرع الجديد يوفر ملاذًا للجماعات المعادية لها بعد أن نجحت في توجيه ضربة موجعة لمحور إيران في غزة ولبنان وسوريا، إكثر من ذلك، تعتقد تل أبيب أن الميليشيات الإسلامية المسلحة وتركيا ليسو الأطراف التي يجب أن تستفيد من منجز إسرائيل الذي صنعته بيدها. لذلك، قامت تل ابيب بخطوات استباقية لمواجهة هذا التهديد، ومنها ضم المزيد من الأراضي السورية إلى سيطرتها، وهي أراض تفتح لها – إلى جانب حماية حدودها – نافذة استراتيجية على جنوب لبنان. بالتوازي، تتمنع حكومة دمشق – حتى الآن – عن الدخول في أي مواجهة مباشرة مع تل أبيب، وهو ما يثير العديد من الشكوك والانتقادات، داخل سوريا وخارجها.
دول الخليج: مواقف متباينة
سوريا اليوم هي مختبر صعب لدول الخليج التي تسعى لمزاحمة الأتراك والإسرائيليين وباقي القوى الفاعلة هناك. ورغم أن دول الخليج كانت داعمة للمعارضة السورية خلال سنوات الثورة الأولى على الأقل، تجد هذه الدول نفسها اليوم أمام واقع مختلف يتطلب استراتيجيات جديدة لمواجهة التحديات الراهنة والتزاحم الصعب.
تتباين مواقف دول الخليج، تمثل قطر مسارًا منفصلاً يتسق مع الموقف التركي يشاركه ويدعمه، أكثر من ذلك، تعتبر قطر أبرز دول الخليج دعمًا للسلطة الجديدة وهو ما يبدو جليًا في زيارة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني كأول حاكم عربي يزور دمشق بعد سقوط الأسد، كذلك دخول عملاق الطيران القطري “الخطوط القطرية” المُباشر إلى مطار دمشق لإعادة تشغيله وتأهيله. تلعبُ الدبلوماسية القطرية والإعلام القطري “قناة الجزيرة” اليوم دورًا بارزًا في تسويق النظام السياسي الجديد، رغم ذلك، تبدو الدوحة ثقيلة الخطوات مترددة في تمويل الحكومة الجديدة قبل رفع العقوبات المفروضة على سوريا، وهو ما قد يرتبط بمخاوف الدوحة من التورط مجددًا في اتهامات المناوئين لها بدعم الجماعات الإسلامية المتطرفة ورعايتها.
على النقيض من ذلك، تقف الإمارات، ومعها البحرين على استحياء إذ تسعى الأخيرة إلى التوزان بين الموقفين السعودي والإماراتي، في الاتجاه المعاكس. تبدو الإمارات أقل دول الخليج حماسة للنظام الجديد في سوريا، ورغم تبادل رسائل التهنئة بتولي أحمد الشرع السلطة تتحفظ الإمارات على دعم النظام الجديد أو تزكيته أو التموضع في موقف الدولة الداعمة له، وهو موقف يتماشى مع السياسية الخارجية للإمارات التي ترتكز على التشكيك بنجاعة الرهان على الإسلام السياسي بل وعلى ضرورة مواجهته وتحجيمه. يدعم الموقف الإماراتي في هذا الموقف المتحفظ كل من مصر العراق وهو ما يجعله موقفًا مهمًا وموثرًا بل وقادرًا على التأثير في الداخل السوري.
يأتي الموقف والسعودي، ومعه مواقف سلطنة عمان والكويت ضمنًا، أكثر حماسة من أبوظبي لكنه أقل اندفاعًا من الدوحة. غنيٌ عن القول أن السعودية التي كانت المحطة الأولى للرئيس الشرع حين زارها مطلع فبراير الماضي، قد قدمت للشرع “قبلة حياة” وسهلت قبوله خليجيا وعربياً، وهو موقف إيجابي لكنه سيبقى مرهونًا بما سيقدمه الشرع للرياض من مزايا ونفوذ على سلطته الوليدة.
خلاصات
المشهد السياسي في سوريا سيبقى معقدًا لسنوات، الصراعات الداخلية وموجات العنف والاقتتال الداخلي ستستمر والتدخلات الخارجية ستبقى حاضرة بقوة.
ورغم أن النظام السياسي الجديد في سوريا قد يواجه صعوبات داخلية وخارجية، فإن قدرته على الاستمرار مرهونة بالدعم التركي – القطري ومدى تماسك الفصائل المتحالفة معه وسيطرة الحكومة المركزية في دمشق عليها، كذلك إدارة الرئيس الشرع لملفي قوات سوريا الديمقراطية “قسد” و”الدروز” وطي صفحة النزاع والثأر مع “العلويين”.
يعتمد تعزيز دول الخليج لنفوذها في سوريا على مدى قدرتها على تبني استراتيجيات مرنة تجمع بين الضغط السياسي والدعم الاقتصادي والدبلوماسية النشطة. فإذا تمكنت دول الخليج من تقديم نفسها كشريك موثوق لإعادة الاستقرار إلى سوريا فإنها قد تتمكن من تحقيق نفوذ مستدام وتقليل المخاطر التي قد تنتج عن صعود الإسلاميين. وهي نجاحات لن تكون في معزل عن صدامات أو توافقات مع كل من تركيا وإسرائيل. وعليه، فإن تحقيق هذا الهدف لن يكون سهلًا.
لن يكون في مقدور الرئيس الشرع الإبقاء على دول الخليج، وخصوصًا السعودية، في سلة الداعمين الإقليميين بالتساوي، أو بما هو أقل، من النفوذ التركي في بلاده، وهو ما قد يجعله مضطرًا، في توقيت ما، للانزياح نحو المحور التركي باعتباره الأكثر قدرة على التأثير في سوريا بما يقوض سلطته شخصيًا. بالتوازي، لا يُتوقع أن تكون السعودية سخية اليد في دعم حكومة الشرع ما لم يتزامن ذلك مع ضمان نفوذ وتأثير حقيقيين.
يبقى انفلات الفصائل الإسلامية المسلحة الأكثر تشددًا، حدثًا متوقعًا في أي لحظة، وهو ما قد يتبعه تدخل أمريكي وإسرائيلي حاسم قد يجر سوريا إلى حرب واسعة غير محمودة العواقب. على مُقربة من ذلك، تتفق وجهات النظر بين كل من الإمارات والعراق ومصر، وربما الأردن، على أن القبول بحكومة إسلامية (سلفية إخوانية) في سوريا هو خطأ استراتيجي يجب ألا تقع فيه.
عادل مرزوق – الرئيس التنفيذي لمركز أمن الخليج