شكّل موقف دولة الإمارات الحازم تجاه تنظيم الإخوان المسلمين ومختلف تنظيمات الإسلام السياسي بعد ثورات الربيع العربي عام 2011 نقطة تحوّل كبرى في سياساتها الداخلية والإقليمية والدولية. لم يكن هذا الموقف وليد لحظة سياسية عابرة بل جاء تتويجًا لتاريخ طويل ومعقّد من التوجس والحذر والتنافس الذي تطور إلى صدام علني ومباشر.
بعد أن كانت الإمارات في سنوات تأسيسها الأولى متقبّلةً لدور الإخوان كقوة محافظة في مواجهة التيارات اليسارية والقومية، سرعان ما تغيّر هذا التقارب مع تزايد طموحات الجماعة السياسية محليًا وإقليميًا. دفع إدراك قادة الإمارات العميق لمخاطر المشروع الإسلاموي إلى تبني استراتيجية شاملة لمواجهته، شملت أبعادًا سياسية ودينية واقتصادية.
تمثّل هذه الاستراتيجية، مزيجًا من المواجهة الأمنية المباشرة وتوظيف التحالفات الإقليمية والدولية والسيطرة على الخطاب الديني وتوجيهه نحو الاعتدال والتسامح بعيدًا عن السياسة، إضافة إلى ضمان استقرار اقتصادي رأت الإمارات أن الإسلام السياسي يشكّل تهديدًا مباشرًا له.
يهدف هذا التقرير إلى استكشاف أسباب ودوافع الموقف الإماراتي الحاسم، من خلال تناول أربعة أبعاد مترابطة. بدءًا بالأبعاد التاريخية، حيث نناقش جذور العلاقة بين الإمارات وجماعة الإخوان، ثم ننتقل إلى الأبعاد السياسية التي تتمثل في مصالح الإمارات الإقليمية، علاقتها بالقوى الكبرى، استراتيجيتها في مواجهة الإسلام السياسي بعد عام 2011. مرورًا بالأبعاد الدينية وموقف الإمارات من الإسلام السياسي كإيديولوجيا وعلاقتها بالمؤسسات الدينية التقليدية وسياساتها تجاه الخطاب الديني والتديّن الفردي والجماعي. أخيرًا، نتناول الأبعاد الاقتصادية، حيث يتقاطع الأمن السياسي مع استقرار الاقتصاد المحلي والدولي، وأثر جماعات الإسلام السياسي على الاستثمارات الإماراتية في المنطقة.
تفسّر هذه الأبعاد مجتمعة سبب الموقف الإماراتي الحاسم من تنظيم الإخوان، وتُحلّل دوافع الإمارات في قيادة هذه المواجهة المفتوحة، وتقدّم محاولة جادة لفهم معادلة الحكم الجديدة التي رسمتها القيادة الإماراتية في العقد الأخير.
الأبعاد التاريخية: من التعاون والحذر إلى الصدام المباشر
لم يظهر الموقف الإماراتي المعادي للإخوان فجأة بعد 2011 بل هو نتاج سنوات من التوجس والمخاوف والصراع المكتوم بين الدولة والإخوان. بعد فترة تعايش حذر في بدايات الاتحاد، أخذت كفة الخلاف ترجح تدريجياً لصالح الدولة مع شعور حكام الإمارات بتنامي طموح الإخوان السياسي، ومع حلول الربيع العربي، كانت الإمارات قد حسمت أمرها بأن بقاء نظامها واستقرار المنطقة يتطلبان القضاء على مشروع الإخوان. وهكذا، انتقلت من مرحلة الدفاع إلى الهجوم.
خلال السبعينات، سمحت الإمارات بهامش معقول من النشاط لجماعة الإخوان عبر جمعية دعوية اجتماعية عُرفت باسم جمعية الإصلاح والتوجيه الاجتماعي “جمعية الإصلاح”.
تأسست هذه الجمعية في أوائل السبعينات وحظيت بدعم حكومي واضح وبارز، وكان من أهم أعضاء الجمعية بعض المدرسين والقضاة والعاملين من مصر وسوريا والعراق والأردن وفلسطين الذين استعانت بهم الإمارات في بداية تأسيسها. في ذلك الوقت، لعب الإخوان المسلمون باعتبارهم قوة محافظة دورًا في مواجهة المد القومي اليساري والشيوعي في المنطقة، عزز هذا التموضع المريح للإخوان أنهم لم يظهروا أي توجهات معارضة لنظام المشيخة في البلاد. خلال الثمانينات، ازدادت قوة جمعية الإصلاح واتسع نفوذ الإسلاميين في وزرات الدولة والمساجد والجامعات والجمعيات المهنية. يصف كاتب إماراتي من أحد الأسر الحاكمة في الإمارات تغلغل الإخوان في تلك الفترة بأنه أشبه ما يكون “بدولة داخل الدولة”.
ربيع العلاقات لم يستمر طويلاً، بدأ المنتسبون لجمعية الإصلاح في اصدار مواقف رافضة لبعض سياسات الدولة؛ فانتقدوا تغريب المجتمع وتفشي ما اعتبروه فسادًا أخلاقيًا في إمارة دبي بشكل خاص، مطالبين بإصلاحات سياسية وأخلاقية. وفي هذا التوقيت تحديدًا، بدأ الأعضاء من المواطنين الإماراتيين البروز في الجمعية، كقادة وفاعلين.
في التسعينات ومع حرب الخليج 1991، تنامت مخاوف دول الخليج من قوى الإسلام السياسي عقب موقف الإخوان المؤيد للرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في غزو الكويت، كذلك دق ظهور حركة الصحوة في السعودية وعودة المقاتلين الخليجيين من أفغانستان إلى ديارهم أجراس الخطر. من هنا، بدأ الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وقادة الاتحاد يشعرون بالقلق من تزايد نفوذ الإسلاميين وجماعة الإخوان المسلمين داخل الإمارات. اتخذت السلطات خطوات تدريجية لتحجيم الإخوان حيث أُبعد عدد من المدرسين والمسؤولين المحسوبين على الجمعية من مواقع مؤثرة ونقل بعضهم إلى وظائف إدارية أو أحيلوا إلى التقاعد. كانت إمارة دبي أكثر حسمًا مقارنة ببقية الإمارات، حين قامت بحل جمعية الإصلاح فيها. رغم ذلك، استمر الإخوان في إمارة رأس الخيمة التي مثلت معقلاً حصينًا لهم وفي بعض الإمارات الصغيرة ما وفر لهم ملاذاً مؤقتاً. حتى تلك اللحظة، لم تلجأ الإمارات بعدُ إلى أي اعتقالات جماعية أو محاكمات علنية بل اكتفت بتضييق النطاق وعزلهم عن مراكز النفوذ.
شكلت أحداث 11 سبتمبر عام 2001 ومشاركة مواطنين إثنين من الإمارات في الهجمات الدموية نقطة تحول مفصلية. أصبحت الإمارات تنظر بعين الريبة إلى كافة الجماعات الإسلامية ونشاطاتها مدفوعة بضغط أميركي اعتبر سياسات دول الخليج الداخلية غير كافية في مواجهة الجماعات الإرهابية. برز هنا دور الشيخ محمد بن زايد الذي تولى مناصب سياسية وأمنية عليا وتبنّى موقفاً حاسمًا تجاه الإخوان باعتبارهم خطرًا حقيقيًا على استقرار الحكم والدولة. سرعان ما بدأت الإمارات إعادة هيكلة جهاز الأمن وتوسيع صلاحياته لمراقبة أي تحركات الإسلاميين، أفرادًا وكيانات دعوية وخيرية. بالتوازي، حاولت أبوظبي اقناع باقي حكام الإمارات أن الأمن الوطني والحفاظ على كيان الدولة لا يمكن أن يدار من خلال سياسة الجزر المنفصلة، فيكون لدبي والشارقة وأبو ظبي وغيرها من الإمارات وجهات نظر متباعدة وسياسات متضاربة. وهو ما عزز من قوة السلطات الاتحادية التي كانت قبل ذلك مجبورة على التنسيق ونيل موافقات حكام الإمارات السبع قبل أي إجراءات حساسة.
استطاعت السلطات الإماراتية الاتحادية رصد الاتصالات والتحركات المرتبطة بأعضاء مختلف الجماعات الإسلامية وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين التي فقدت بوفاة الشيخ صقر القاسمي (حاكم رأس الخيمة) عام 2010 أهم المدافعين عنها. وعليه، أطلقت السلطات الأمنية أول حملة أمنية ضد الجماعة.
شكلت ما يعرف بثورات الربيع العربي 2011 صدمة كبرى للإمارات التي اعتبرت سقوط أنظمة صلبة مثل مصر وتونس وليبيا وصعود الإخوان في بعض تلك الدول تهديدًا مباشرًا لها. وقتئذ، أيقنت أبوظبي، وبما لا يدعو للشك، أن الوقت قد حان لاستئصال خطر الإخوان الداخلي قبل أن يستفحل.
في مارس 2011، وقّع عشرات المثقفين الإماراتيين عريضة تطالب بإصلاحات سياسية وزيادة صلاحيات المجلس الوطني. ردّت السلطات بحزم عبر اعتقال بعض منهم، كانت الرسالة واضحة: أبوظبي لن تتسامح مع أي معارضة منظمة والإمارات لن تكون دولة من دول الربيع العربي.
في ربيع 2012، اعتقلت السلطات العشرات من أعضاء تنظيم الإصلاح ليصل العدد في نهاية العام إلى نحو94 شخصاً من المرتبطين بجمعية الإصلاح، تبع ذلك تقديم 69 شخصًا إلى المحاكمة فيما عرف بقضية الإمارات 94. وجهت النيابة إلى الموقوفين تهماً منها تشكيل تنظيم سري لقلب نظام الحكم بالتنسيق مع جهات خارجية (المقصود بها تنظيم الإخوان المسلمين الدولي)، ونشرت السلطات تسجيلات صوتية ومصورة لبعض اللقاءات التي جمعت قادة جمعية الإصلاح مع بعض المنتسبين والمتعاطفين من الشباب الإماراتيين تضمنت التلويح بمواجهة السلطات.
صدرت احكام بالسجن لفترات بين 7 و15 عامًا، وقالت السلطات أنها اكتشفت جناحاً عسكريًا للتنظيم وخطة لإقامة دولة الخلافة الإسلامية في الإمارات، وهي اتهامات نفاها المتهمون. بالتزامن، بدأت أذرع الدولة الإعلامية حملة إعلامية مكثفة ضد الإخوان ووصفتهم بالخونة والعملاء للخارج والساعين لهدم الدولة. بحلول نوفمبر 2014، أدرجت الحكومة الإماراتية تنظيم الإخوان وجمعية الإصلاح على قائمة الإرهاب. كان من الواضح أن مجموع الإجراءات الحكومية الصارمة قد قلصت أو أنهت تماماً نشاط الإسلاميين الذين التزموا الصمت أو غادروا البلاد. الذين غادروا قاموا لاحقًا بإنشاء مجموعات حقوقية في تركيا وبريطانيا ركزت على مواجهة السلطات واعتبار الإجراءات الحكومية متعسفة وأن المحكومين لم يحصلوا على محاكمات قضائية عادلة.
يمكن القول إن الإمارات نجحت في فرض رؤيتها، إذ من الملاحظ اليوم أن تنظيمات الإخوان المسلمون اليوم إما مكبوتة أو مطاردة في معظم دول الخليج ومصر إلى حد يعود في جانب كبير منه إلى الإمارات. ورغم بقاء الإخوان ضمن المشهد السياسي في دول مثل البحرين والكويت إلا أنهم أصبحوا حذرين وأضعف في ظل موجة المضايقات الإقليمية ضدهم.
الأبعاد السياسية: المصالح الإقليمية والاستراتيجية
يصرّح مسؤولون إماراتيون على الدوام بأن الإخوان المسلمين يُعتبرون أخطر تهديد لأمن الدولة ولاستقرار المنطقة على المدى البعيد. وبالنتيجة، تصنف الإمارات الإسلام السياسي بمختلف فروعه على أنه خصم مباشر وتضعه في مرتبة التهديد الذي لا تقل خطورته عن الخصوم التقليديين. ينعكس هذا التصور في سياسات الإمارات بعد 2011 بشكل واضح، حين دعمت الإمارات بقوة الأنظمة العربية المناهضة للإخوان مثل مصر، وبما يشمل القوى العسكرية التي تواجه الإسلاميين مثل المشير خليفة حفتر في ليبيا.
وترى أبوظبي أن طبيعة تنظيم الإخوان المسلمين العابرة للحدود تضاعف من خطرهم؛ فوصولهم إلى السلطة في مصر أو تونس أو لبيبا يجعلهم قادرين وبشكل مباشر على تعزيز تموضع أفراد وكيانات الجماعة في باقي الدول العربية، والإمارات هي واحدة من هذه الدول. وفي هذا السياق، أعادت أبوظبي صياغة تحالفاتها الإقليمية بعد 2011 فتقاربت بقوة مع السعودية، لا سيما بعد صعود قيادة جديدة في الرياض تبدو أكثر انسجامًا معها، ورغم أن الإمارات كانت تاريخياً شريكاً أصغر للسعودية إلا أنها بروز دور رئيس الدولة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان جعل منها لاعباً مبادراً يدفع نحو تحركات مشتركة وحاسمة.
عقب العام 2013، تشكّل محور إماراتي – سعودي – مصري بهدف كبح جماح طموحات قوى الإسلام السياسي في المنطقة. قاد المحور عمليات بارزة مثل التدخل في اليمن ضد الحوثيين (2015) وفرض المقاطعة على قطر (2017). من جهة أخرى، حرصت الإمارات على تعزيز علاقتها بالقوى الكبرى وخاصة الولايات المتحدة باعتبارها الحليف الدولي الأهم والضامن الحقيقي لأمن الخليج، استمرار أبوظبي في تحالفها الوثيق مع واشنطن كان مهددًا بتباينات عدة ظهرت خلال فترة إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق أوباما حول الموقف من الربيع العربي وإيران. جدير بالذكر في هذا السياق، شعور الإمارات ودول خليجية أخرى مثل السعودية والبحرين بالخذلان من الولايات المتحدة أثناء الربيع العربي حيث بدت واشنطن متقبلة لوصول الإخوان للسلطة في مصر وتونس، وهو ما جعل الإماراتيين يدركون أن مواجهة الإخوان وتنظيمات الإسلام السياسي يجب أن يكون بجهودهم الذاتية لا بالاعتماد على واشنطن وتقلباتها.
تحسنت العلاقات الأمريكية الإماراتية بشكل ملحوظ في عهد إدارة ترامب الأولى التي شاركت أبوظبي رؤيتها المناهضة للإسلاميين وإيران، استطاعت الإمارات مزاحمة قطر في واشنطن وصولاً إلى اعتبارها أحد أهم الشركاء في سياسة الولايات المتحدة الشرق أوسطية إلى جانب السعودية وإسرائيل. بالتوازي، شهدت علاقة الإمارات مع كل من تركيا وقطر توترًا حادًا بعد 2011، حيث وقفت أبوظبي في خندق معاكس لأنقرة والدوحة الداعمتين لتيارات الإخوان في مصر وتونس وليبيا وسوريا. توّج الخلاف مع قطر بقطع العلاقات وحصارها عام 2017 بمشاركة سعودية ومصرية وبحرينية، إذ رأت الإمارات في سياسة قطر المتسامحة مع الإخوان تهديداً مباشراً لاستقرار المنطقة.
انتهجت الإمارات بعد 2011 استراتيجية شاملة لمواجهة تمدد الإسلاميين، تضمنت هذه الاستراتيجية أدوات سياسية واقتصادية وإعلامية وأمنية مباشرة. على الصعيد الدبلوماسي والعسكري، لم تتردد أبوظبي في التدخل خارجيًا لكبح الإخوان وحلفائه.: في مصر، دعمت الإمارات الإطاحة بحكم الإخوان في مصر منتصف عام 2013 وقدمت مساعدات مالية ضخمة لنظام ما بعد 3 يوليو لضمان استتباب السلطة، وهو ما جعل القاهرة حليفاً محورياً للإمارات في الحرب على الإسلام السياسي.
في تونس، موّلت الإمارات ودعمت إعلامياً قوى علمانية مثل حزب نداء تونس لمواجهة نفوذ حركة النهضة المنظوية تحت جماعة الإخوان المسلمين. في ليبيا، انخرطت الإمارات عسكرياً عبر الدعم الجوي واللوجستي لقوات المشير خليفة حفتر بوصفه شخصية مناهضة للإسلاميين المتحالفين مع حكومة طرابلس، ما أرادته أبوظبي هو الحيلولة دون صعود حكومة في ليبيا يكون للإخوان أو الجماعات المقربة منهم دورٌ رئيسيٌ فيها. في اليمن، شاركت الإمارات في التحالف العسكري ضد الحوثيين لكنها في الوقت نفسه ناهضت حزب التجمع اليمني للإصلاح (المحسوب على الإخوان) داخل المعسكر المناوئ للحوثيين، وهو ما تسبب لاحقًا في خلافات جوهرية مع حليفتها السعودية.
اعتبرت الإمارات جماعات الإسلام السياسي بكافة أطيافهم “متطرفين” بغض النظر عن تبنيهم العنف من عدمه، مرتكزة في ذلك على سردية مفادها أن تبني العنف أو مناهضته ليست أكثر من تكتيكات سياسية مخادعة. في نوفمبر 2014، ذهبت الإمارات إلى نشر قائمة للمنظمات الإرهابية ضمت إلى جانب تنظيمي القاعدة و”داعش” أسماء منظمات إسلامية غير عنيفة في أوروبا وأمريكا، معتبرةً أنها جزء من شبكة الإخوان. هذه الخطوات كشفت وبوضوح عن رغبة الإمارات الجامحة في تقديم نفسها دولياً كشريك يتصدر صفوف الحرب على الإرهاب والتطرف، وهو ما أكسبها تعاطفاً ودعمًا من بعض القوى الدولية.
في المحصلة، ترى الإمارات أن مصالحها الإقليمية تكمن في ضمان بيئة عربية مستقرة وخالية من تهديدات الإسلام السياسي وسعي الجماعات الإسلامية في الوصول إلى السلطة. ولذا، اعتمدت تحالفات قوية مع أنظمة مناهضة للإخوان ومع القوى العالمية للحفاظ على الوضع القائم مع تبني نهج استباقي هجومي ضد حركات الإسلام السياسي في المنطقة.
الأبعاد الدينية: موقف إيديولوجي وسياسات ضبط الخطاب الإسلامي
تتبنى الإمارات خطاباً إسلامياً مناقضاً ومناهضًا لمشروع الإخوان المسلمين. وتنظر القيادة الإماراتية إلى تسييس الدين على أنه خطر فكري واجتماعي يهدد هوية الدولة ومنهجها. يستمد حكام الإمارات شرعيتهم من أسس قبلية وتاريخية ودستورية. ولذلك، تعتبر غالبية قوى الإسلام السياسي الحكومة الإماراتية وسائر الحكومات العربية الحليفة للغرب “أنظمة مرتدة” أو عميلة للغرب بسبب عدم تحكيمها الشريعة. وعليه، تعتقد أبوظبي أن أي تبنٍ شعبي لأفكار تطعن في شرعية النظام فيها هو مسار جاد وخطير لتقوّيض الحكم. ومن هنا، تحرص الإمارات على تقييد انتشار الفكر الإسلاموي محلياً ومواجهته. يعتبر القادة الإماراتيون أن الإخوان المسلمين بوابة مفتوحة إلى التطرف واستخدام العنف؛ يشبه مسؤول إماراتي الإخوان باعتبارهم “المخدّر الذي يفتح الطريق أمام التطرف”.
وقبالة سردية جماعات الإسلام السياسي، تروّج الإمارات لسردية الإسلام التقليدي المعتدل المرتبط بالمؤسسات الدينية الرسمية والتراثية. ولتعزيز هذه السردية، نسجت أبوظبي علاقات وثيقة مع مؤسسات كبرى مثل الأزهر في مصر وفتحت القنوات الإعلامية لرجال الدين المعتدلين الذي يتبنون توجهات ناقدة للإخوان المسلمين والتنظيمات الإسلامية المتشددة. كذلك استضافت الإمارات الشيخ عبدالله بن بيّه (عالم موريتاني بارز يتبنى طرحاً تصالحياً بعيداً عن الإسلام السياسي) ليترأس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي ويساهم في جهود منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة الذي أطلقته الإمارات عام 2014. وفي يوليو 2014، أُعلن في أبوظبي تأسيس “مجلس حكماء المسلمين” برئاسة شيخ الأزهر وعضوية علماء من مختلف الدول بهدف توحيد جهود الأمة لمواجهة الأيديولوجيات المتطرفة.
إلى جانب ذلك، تبنت الإمارات عدة مبادرات لتعزيز خطاب “الإسلام المعتدل المتسامح”، ومن ذلك، تنظيمها منذ 2014 مؤتمراً سنوياً لتعزيز السلم في المجتمعات المسلمة والمشاركة في رعاية إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية عام 2016، كما عيّنت الحكومة منذ 2016 وزيراً للتسامح وأسست معابد وكنائس على أراضي ممنوحة لخدمة الجاليات المقيمة. وتتويجاً لهذه السياسة، قامت الإمارات بدعوة البابا فرانسيس لزيارة تاريخية في فبراير 2019، كأول زيارة لبابا الفاتيكان إلى شبه الجزيرة العربية، حيث تم توقيع وثيقة “الأخوة الإنسانية” بين شيخ الأزهر والبابا في أبوظبي. كل ذلك يصب في رسم محاولة الإمارات تقديم نفسها كـ “واحة للتسامح الديني” في منطقة تعصف بها موجات التطرف والعنف.
داخلياً، تبنت الإمارات سياسات صارمة لضبط النشاط الديني ليبقى في الإطار التعبدي للأفراد دون أن يتقاطع مع الشأن السياسي أو الولاء للدولة. تحظر الحكومة بشدة استغلال الدين في السياسة أو انتقاد النظام باسم الدين، كذلك عقد الدروس الدينية أو حلقات الوعظ خارج إطار المؤسسات المصرح لها. وتجرّم السلطات جمع التبرعات أو إقامة الأنشطة الدينية دون ترخيص باعتبارها قد تكون غطاءً لتحركات غير مشروعة. كما تراقب السلطات المحتوى الإلكتروني وتحجب شركات الاتصالات الحكومية المواقع الإلكترونية التي تتبنى خطاباً إسلاموياً معارضاً أو تعتبره السلطات “متطرفا”.
في المقابل، تروّج الدولة لنماذج تدين فردي وروحي غير مسيّس وتشجع المواطنين على ممارسات دينية منزوعة الصبغة السياسية مثل المسابقات القرآنية والفعاليات الخيرية الرسمية، ضمن إطار الولاء للدولة.
الأبعاد الاقتصادية: الأمن السياسي واستقرار مناخ الاستثمار
يمثل الاستقرار بالنسبة للإمارات شرطاً لازماً لاستمرار نموذجها الاقتصادي الذي تتباهى به في المنطقة. منذ عقود، انتهجت الإمارات سياسة الانفتاح الاقتصادي وتنويع مصادر الدخل لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية والخبرات العالمية وبناء مركز مالي وسياحي وتجاري إقليمي.
نجحت هذه الاستراتيجية في تحقيق معدلات نمو مرتفعة وفي تنويع الاقتصاد بعيداً عن النفط. لكن هذا النموذج بالغ الحساسية تجاه أي اضطراب سياسي أو أمني. يدرك قادة الإمارات أن ظهور حركات الإسلام السياسي يضر بسمعة البلاد كبيئة آمنة مستقرة للأعمال. ذلك أن شعور المستثمر الأجنبي والسائح والزائر بأن هناك توتراً سياسياً أو نشاطاً معارضاً بصبغة اسلامية قد يتطور لاحتجاجات أو عنف، سيفقد هؤلاء المستثمرين والسياح الثقة بالإمارات كبيئة مستقرة وواعدة.
ومن هنا، يتقاطع الأمن السياسي مباشرةً مع مصالح الإمارات الاقتصادية؛ وعليه، نشأت قناعة تامة بأن بقاء الساحة الداخلية والإقليمية مستقرة وخالية من الاضطرابات هو الضامن الوحيد لاستمرار تدفق رؤوس الأموال والمقيمين من ذوي الكفاءات إلي الإمارات. وعليه، يمكن القول إن سياسة التسامح الديني الإماراتية ومواجهة الإخوان المسلمين ترتبط بشكل استراتيجي بطبيعة النموذج الاقتصادي المنفتح الذي تتبناه البلاد. وعليه، إن محاربة الفكر الإخواني ليست مجرد خطوة أمنية بل هي ضرورة اقتصادية ملحة.
تمتد النظرة الاقتصادية للإمارات من الداخل إلى مصالح الإمارات وأذرعها الاستثمارية في الخارج باعتبارها أحد أكبر المستثمرين الدوليين في قطاعات المشاريع العملاقة للطاقة وإدارة الموانئ، إقليميًا ودوليًا. وبذات المعادلة، إن من شأن أي اضطرابات سياسية أو حروب أهلية تغذيها قوى الإسلام السياسي في دول المنطقة أن تؤثر سلبًا على الاقتصاد ورؤوس الأموال الإماراتية في الخارج، على سبيل المثال، وبالنسبة للإمارات، تمثل الفوضى السياسية والعسكرية في ليبيا وتصاعد نفوذ الميليشيات الإسلامية خطرًا يهدد شركات موانئ دبي العالمية في شمال إفريقيا، وهو ما دفع الإمارات للتدخل.
في ذات السياق، تسعى الإمارات إلى تأمين الممرات البحرية الدولية الممتدة من الخليج إلى البحر الأحمر وشرق إفريقيا عبر السيطرة على الموانئ لضمان انسيابية التجارة بعيداً عن سيطرة أي جهات معادية. ومما لا شك فيه، إن تحجيم دور الإخوان وجماعات الإسلام السياسي مثل الحوثيين في دول مثل اليمن والصومال وليبيا هو جزء من هذه الرؤية لحماية طرق التجارة البحرية.
يمنح الاستقرار السياسي الإمارات ثقلاً في أسواق الطاقة والمال ويضمن لها التركيز على مشاريع تنموية طويلة الأمد دون خوف من أي اضطرابات داخلية أو إقليمية. وترى الإمارات في امتداد نفوذ جماعات الإسلام السياسي تهديدًا للمناخ الاستثماري إما مباشرةً عبر نشر أيدولوجية تناهض النموذج الاقتصادي المنفتح وهو ما سيربك المجتمع الاستثماري، أو بشكل غير مباشر عبر التسبب في اضطرابات أمنية وسياسية تخيف المستثمرين وتؤثر على خطوط التجارة والتدفق المالي. ولذا، فإن حماية الاقتصاد كانت، ولا تزال، عاملًا أساسيًا وحاسمًا وراء حزم الإمارات وتصدرها مشهد مواجهة الإخوان وقوى الإسلام السياسي بعد 2011.
خاتمة
تبدو الحساسية الإماراتية الشديدة تجاه تنظيم الإخوان المسلمين مفهومة عند النظر بصورة شاملة إلى الأبعاد التاريخية والسياسية والدينية والاقتصادية. يؤمن حكام الإمارات أن دولتهم التي قامت على مفهوم الدولة الحديثة المنفتحة اقتصادياً والمعتدلة دينياً والمغلقة سياسيًا، أن مشروع الإخوان ومختلف جماعات الإسلام السياسي، داخل الدولة وخارجها، يمثل تهديداً استراتيجياً لجوهر الدولة وسياداتها واستقرارها ومصالحها الاقتصادية.
تخشى أبوظبي من أن يؤدي صعود الإسلاميين إقليميًا إلى زعزعة استقرارها الداخلي وانتقال عدوى التغيير السياسي إليها، ما دفعها إلى بناء تحالفات إقليمية ودولية واسعة بهدف تطويق نفوذ الإسلام السياسي وضمان استمرار سيطرة أنظمة تشاركها الموقف ذاته من تيارات الإسلام السياسي في المنطقة.
على المستوى الديني والفكري، تتبنى الإمارات سياسة واضحة تفصل بين الدين والسياسة، وتقدّم نفسها بوصفها نموذجًا للاعتدال والتسامح الديني مقابل تصوير الإسلاميين على أنهم متطرفون وخارجون عن الوسطية الدينية. وفي سبيل تعزيز هذه الصورة، تستخدم الإمارات قوتها الناعمة وأذرعها الإعلامية مستندةً إلى المؤسسات الدينية التقليدية مثل الأزهر ومبادرات التسامح والحوار بين الأديان.
على المستوى الاقتصادي، تدرك القيادة الإماراتية الترابط الوثيق بين الأمن السياسي والاستقرار الاقتصادي، وتعتبر أن أي تصاعد في نفوذ جماعة الإخوان المسلمين أو نشوء اضطرابات سياسية يسببها هذا التيار، من شأنه تقويض ثقة المستثمرين والشركاء الدوليين في الإمارات بوصفها مركزًا إقليميًا آمنًا ومستقرًا. لذلك، مثّل القضاء على نفوذ الإسلاميين جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية الإمارات لضمان استدامة النمو الاقتصادي وحماية استثماراتها الخارجية وسمعتها الدولية.
تاريخيًا، يمكن النظر إلى السياسات الإماراتية بعد 2011 على أنها امتداد طبيعي لصراع طويل مع جماعة الإخوان المسلمين بلغ ذروته مع أحداث الربيع العربي، حين وجدت أبوظبي الفرصة ملائمة لحسم هذا الصراع نهائيًا مستفيدةً من المناخ الإقليمي المواتي وتشكل إرادة سياسية حازمة في الداخل جسدتها قيادة رئيس الدولة الشيخ محمد بن زايد.
هذه العوامل مجتمعة توضح أسباب الموقف الإماراتي الحازم ضد تنظيم الإخوان المسلمين والتنظيمات الإسلامية منذ عام 2011. هذا الموقف في جوهره دفاع عن نموذج سياسي واجتماعي خاص اختارته الإمارات لضمان استقرارها الداخلي وتعزيز نفوذها الإقليمي والدولي. نجحت أبوظبي في فرض هذا النموذج إلى حد بعيد لكن هذا النجاح رافقه ثمنٌ باهظ تمثل في اعتبار الإمارات هدفًا للجماعات الإسلامية ودعايتها السياسية وعدوًا معلنًا. وبهذا المعنى، فإن السياسة الإماراتية تجاه الإسلام السياسي تعبّر في وقت واحد عن حرصها المشروع على الأمن والتنمية وعن قبولها خوض معركة طويلة، شاقة وباهظة الثمن.
مصادر:
- مقابلات خاصة مع مجموعة من السياسيين والأكاديميين من الإمارات ودول الخليج.
- د. ستيفان لاكروا، “الإمارات العربية المتحدة: عندما يخدم “التسامح الديني” غايات سياسية متشددة”sciencespo.frsciencespo.fr معهد العلوم السياسية – باريس
- مؤسسة SWP الألمانية للبحوث، تقرير “القوة الإقليمية الإماراتية”swp-berlin.orgswp-berlin.org (2020).
- أندرو تشابيل – الجزيرة الإنجليزية، “مشكلة أبوظبي مع الإخوان” المسلمين”aljazeera.comaljazeera.com (مايو 2018.
- تشاثام هاوس – جين كنب،” تصورات الخطر في سياسة الإمارات الخارجية والأمنية””chathamhouse.orgchathamhouse.org يوليو 2020.
- المراجعة الدولية للشؤون (IAR-GWU) – أليسا فرومكين، “كيف تواجه الإمارات الإيديولوجيا الإسلامية iar-gwu.orgiar-gwu.org (2015).
- برقيات ويكيليكس – مداولات المسؤولين الأمريكيين مع محمد بن زايد حول الإخوانaljazeera.com (2010).
- تقارير الخارجية الأمريكية حول الحرية الدينية wilsoncenter.org