لم يعد الحشد الشعبي سؤالًا عن الماضي بقدر ما هو اختبار لمستقبل الدولة في العراق. هل تستطيع بغداد تحويل “شرعية الإنجاز” إلى شرعية قانونية تحت مظلة الدولة ومؤسساتها، أم ينزلق البلد إلى مأسسة ازدواجيةٍ دائمة بين مؤسسة عسكرية رسمية (الجيش) واتحاد فصائل عسكرية نافذة (الحشد)؟
تقدَّر كتلة الحشد البشرية ما بين 170 – 240 ألف منتسب، وهو رقم يضع الحشد كتوأم عددي للجيش مع تفاوت حاد في الانضباط والتجهيز والولاءات. على المستوى القتالي، راكمت بعض الألوية في الحشد قدرات راجمات وصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى ومسيّرات استطلاعية وهجومية. على المستوى المؤسسي، تكشف فجوات الدفاع الجوي والقيادة والسيطرة المشتركة حدود القوة حين تنتقل من حرب الاستنزاف إلى متطلبات الردع المتكامل.
هذه المفارقة تصوغ معادلة الداخل باعتبار الحشد رافعة تعبئة وأداة ضغط سياسية في ملفات مثل الوجود الأميركي وأزمة كركوك وضبط الحدود من جهة، ومعادلة الخارج من جهة أخرى، حيث تتشابك الفصائل “الولائية” مع محور إيران، ما يضع بغداد بين مطرقة الالتزامات الدولية والعلاقة مع واشنطن ودول الخليج وسندان السيادة وبقاء الدولة. وعليه، تبدو التنازلات في المحورين وفي أي اتجاه، موجعة وجدلية.
تطرح هذه الورقة أربع مسارات، الأرجح بينها هو “المأسسة الهجينة المنضبطة”، أي بقاء الحشد كيانًا رسميًا واسع التمويل مع تقليص هوامش التحركات الفردية أو ردود الفعل المتسرعة. وحتى لا تتحوّل “المأسسة الهجينة” إلى فوضى مكلِفة، تقترح الورقة حزمة إصلاح قابلة للقياس مثل توحيد لوائح الخدمة والتقاعد، ربط الرواتب بيومتريًا لإغلاق ملف “الجنود الوهميين”، إخضاع قدرات الحشد لتفويض مركزي وغرفة عمليات مشتركة مع الجيش، ورفع الشفافية الرقابية في الموازنة والعقود.
رهان النجاح واضح ومشحون بالتحدّيات، الواجب هو أن تنكمش ازدواجية القرار والسلاح خارج الدولة وأن يترجم الحشد رصيده الاجتماعي إلى رافعة استقرار لا مصدر هشاشة؛ وأن ينجح العراق في تسويق استراتيجية “الحياد النشِط” التي تقيه ارتدادات الإقليم وتحفظ احتكار القوة في يد الدولة. وما لم تُغلق ثغرات القيادة والتمويل والرقابة، ستبقى الكلفتين السياسية والاقتصادية أعلى من عوائد “شرعية الإنجاز”، وسيظل سؤال الحشد بوابة تقييم لقدرة بغداد على إعادة بناء عقدها الاجتماعي والأمني.
خلفية تأسيسية
إثر صدمة سقوط الموصل وانهيار الجيش العراقي بيد تنظيم “داعش” في يونيو/حزيران 2014، تشكّل الحشد الشعبي بوصفه مظلة تنظيمية للعديد من الفصائل المسلّحة حديثة التشكيل. كان الإطار التعبوي الأبرز لخروج هذه الفصائل هو فتوى الجهاد الكفائي التي أصدرها المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني في 13 حزيران/يونيو 2014.
تدريجيًا، تحولت هذه التشكيلات من العشوائية التي تزامنت مع حالة التعبئة الطارئة إلى مؤسسة رسمية بموجب قانون هيئة الحشد الشعبي رقم (40) لسنة 2016 الذي نصّ على أن الحشد “جزء من القوات المسلحة العراقية ويرتبط بالقائد العام للقوات المسلحة”، مع التأكيد على فكّ ارتباط منتسبيه عن “الأطر السياسية والحزبية”، بما يشمل حظر العمل السياسي.
منذ 2017، وبعد إعلان الانتصار العسكري، تصاعد الجدل واحتدت المناقشات حول مستقبل الحشد. ما بين الدمج مع قوات الجيش والإصلاح الهيكلي أو الإبقاء على هذه القوات باعتبارها “قوة موازية”. خلال هذا العام، طُرح مشروع قانون مُعدِّل يهدف إلى مزيد من دمج الحشد في التسلسل القيادي العسكري الرسمي بما يُخضعه مباشرة، وبشكل لا لبس فيه، ضمن سلطة رئيس الوزراء.
جيش كبير وهيكل أكبر
تتباين تقديرات القوة البشرية وتعداد المقاتلين في الحشد الشعبي تبعًا للمنهجية واعتبارات السياسة الداخلية. خلال العامين الماضيين، أشارت تقارير صحفية وبحثية إلى بلوغ العدد عتبة 240 ألف منتسب. في أبريل/نيسان 2023، نُقل عن رئيس هيئة الحشد فالح الفيّاض أن العدد بلغ نحو 170 ألفًا قبل اعتماد “قانون الأمن الغذائي” 2022 الذي أعاد نحو 30 ألفًا ليقترب الإجمالي من 204 آلاف مقاتل.
في هذا العام 2025، ذُكرت تقديرات أن تعداد المقاتلين في الحشد الشعبي يصل إلى 238 ألف مقاتل.
تعكس هذه الفوارق مشكلة قوائم الرواتب وتضارب البيانات، كما تعكس دورات التعبئة والتسريح وفق التهديدات الأمنية وتعقيدات ملف الحدود، وهي نقطة انتقاد متكررة تسببت في إشكالات سياسية واقتصادية عميقة.
تُقدَّر ألوية الحشد بنحو 70 لواءً؛ ما يؤكد أن هناك تباينًا في الانضباط والولاءات. رغم ذلك، يمكن تقسيم الحشد إلى ثلاثة أقسام رئيسة:
أولاً: الفصائل المقرّبة من إيران/الحرس الثوري: تشمل “منظمة بدر” و”كتائب حزب الله” و”عصائب أهل الحق” و”النجباء” و”كتائب سيد الشهداء” وغيرها؛ وترتبط هذه الفصائل بعلاقات تنظيمية وتسليحية مباشرة مع “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري.
ثانيًا: فصائل العتبات (حشد المرجعية): فرقة العباس القتالية، لواء علي الأكبر، فرقة الإمام علي وأنصار المرجعية؛ أعلنت الانفصال المؤسسي عام 0202 والالتحاق بهياكل وزارتي الدفاع والداخلية.
ثالثًا: فصائل حزبية/ محلية: ألوية عشائرية ومناطقية سنّية/ تركمانية/ مسيحية بدرجات اندماج متفاوتة.
وتشير تقديرات الفصائل الرئيسة (قابلة للتذبذب) إلى هذه الفصائل الخمسة باعتبارها الأكبر بين الفصائل:
أولاً: منظمة بدر: نحو 18–22 ألف مقاتل (تقديرات 2019؛ تشير مصادر متضاربة إلى تعداد يصل إلى 50 ألفًا).
ثانيًا: سرايا السلام (التيار الصدري): بين 10–50 ألف (تختلف التقديرات مع التعبئة والتجميد المتكرر).
ثالثًا: عصائب أهل الحق: يقدر عدد المقاتلين بنحو 10 آلاف.
رابعًا: كتائب حزب الله: يقدر عدد المقاتلين ما بين 7 و10 آلاف مقاتل (بعض التقديرات تصل إلى 30 ألفًا).
خامسًا: حركة حزب الله النجباء: يقدر عدد المقاتلين ما بين 8 و10 آلاف.
يضاف إلى ذلك، فصائل أخرى من الشيعة أقل عددًا من ناحية المقاتلين وكذلك الفصائل السنّية والتركمانية والمسيحية التي تختلف تقديراتها وتتبدّل مع متطلبات الأمن الداخلي ومهام ضبط الحدود.
هذا وتُعد “هيئة الحشد الشعبي” المظلّة القيادية والإدارية والمالية للحشد، يترأس الهيئة حاليًا فالح الفيّاض، ويتولى رئاسة الأركان عبد العزيز المحمداوي “أبو فدك” منذ 2020. على الصعيد العملياتي، تبرز شبكة من المديريات، ومنها (الاستخبارات، العمليات، الإسناد، الإعلام) وقيادات مناطقية. يُثار جدل واسع حول ولاء القيادات العسكرية والفصائل وتقاطعاتها مع تيارات سياسية وازنة مثل “الإطار التنسيقي” وفصائل “المقاومة”.
خارطة التسليح والميزانية
يقوم تسليح الحشد على ثلاث قنوات: الإمداد الحكومي، الإسناد الإيراني الانتقائي للفصائل الولائية، وأخيرًا، الغنائم. كما ويختلف توزيع المنظومات باختلاف الولاءات والمهام الميدانية.
التسليح الحكومي المباشر: خلال الحرب على “داعش” تلقى الحشد برامج إمداد وإسناد عسكرية واسعة، كما استفاد من شحنات عسكرية أميركية متعاقد عليها حكوميًا ضمن برنامج تسليح الجيش.
الإسناد الإيراني: لعب “فيلق القدس” دورًا محوريًا في تسليح بعض الفصائل، شمل ذلك راجمات صواريخ ونماذج “توفان” (مشتقة من منظومة “تاو” الأمريكية) و”صواريخ “كورنيت” ومدفعية صاروخية (HM-20/27) ومنظومات محلية مثل راجمات “إيرام”، إضافة إلى أسلحة خفيفة.
غنائم المواجهات مع تنظيم الدولة “داعش”: ما بين عامي 2015 – 2017 حصلت بعض الفصائل على مركبات وأسلحة خفيفة، إلى جانب تدريع مركبات مدنية وتحوير عربات مدرعة قديمة.
بنية القدرات
أسلحة خفيفة/متوسطة: وتشمل مخزون كبير من AKوPKM وRPG-7 وهاونات من فئة 60–120 ملم، منظومات قنص شكّلت عماد حرب الاستنزاف داخل محافظات الشمال والغرب إبّان ذروة المواجهة مع داعش.
المدرعات والمدفعية: رُصدت دبابات T-55/T-72 ومركبات BMP-1، وراجمات محلية/إيرانية ومدافع ميدان؛ والتوزيع التفصيلي غير مُعلن.
الصواريخ/الراجمات: تشل صواريخ فجر1 وفجر5 و”زلزال”، كذلك راجمات 122 ملم (HM-20/27)وIRAM محلية التجميع؛ وتمنح هذه الصواريخ بعض الألوية الولائية بالضرورة، قدرة قصف مركّز قصير متوسط المدى.
الطائرات المسيّرة: لدى الفصائل المقرّبة من إيران أسراب من طائرات “مهاجر6″؛ تقارير وتحليلات غربية وثّقت وجود منصات “سحاب” و”صماد” مرتبطة تنظيميًا بمديرية استخبارات الحشد و”قيادة عمليات الجزيرة” مع خصوصية لدى “كتائب حزب الله”.
الدفاع الجوي والإسناد التقني: لا يمتلك الحشد منظومات دفاع جوي متكاملة ومستقلة؛ رغم ذلك، رُصدت أصول دفاعية نقطية (رادارية) ضمن مواقع مشتركة، دون دلائل علنية على قدرات متوسطة أو بعيدة المدى.
الطيران الجوي: لا يمتلك الحشد سلاحًا جويًا مستقلًا؛ واستفاد خلال الحرب من الإسناد الجوي العراقي والأميركي.
الحرب الإلكترونية والاستخبارات: يمتلك الحشد جناح استخبارات، كما يقوم بتشغيل مسيّرات وإشارات (SIGINT) على مستوى تكتيكي. نفذ الحشد هجمات دقيقة خلال 2024–2025.
الميزانية العامة للحشد
تُظهر جداول موازنة 2024 زيادة لافتة في تخصيصات الحشد، خصوصًا باب الرواتب الذي ارتفع بنحو 400 مليار دينار مقارنة بعام 2023.
وفيما قُلِّصت مخصصات التسليح بأكثر من 317 مليار دينار؛ بلغ إجمالي مبالغ الحشد في موازنة 2024 نحو 4.556 تريليون دينار (قرابة 3 مليارات دولار بسعر الصرف حينها). وتُثير هذه الزيادة نقاشًا حول معايير الضبط المالي، وتطابق الأعداد المموّلة مع القوة الفعلية، ومدى فاعلية الرقابة البرلمانية والرقابية.
الشرعية السياسية وصراع السرديات
يقيم الحشد الشعبي في منطقة رمادية بين “شرعية القانون” و”شرعية الإنجاز”. يحسم القانون الصادر عام 2016 تبعية الحشد الشعبي لرئيس الحكومة “القائد العام للقوات المسلحة”، رغم ذلك، تكرس الممارسة الفعلية والواقع بنية هجينة تجمع بين الحشد بوصفه هيئة رسمية تُموَّل من الموازنة العامة للدولة وبين كونه اتحاد فصائل يمتلك بعضها علاقات سياسية وعسكرية مع الخارج وتمثيلًا انتخابيًا وشبكات اقتصادية وخدمية محلية. بهذا المعنى، يمدّد نفوذ الحشد من جبهة القتال إلى المجالين السياسي والإداري ليصبح جزءًا من معادلة السلطة لا مجرد قوة إسناد عسكرية.
تتجاور داخل البيت الشيعي قراءتان سياسيتان: الأولى، يتبناها قوى “الإطار التنسيقي” و”الفصائل الولائية” وترى أن شرعية المقاومة والقاعدة الاجتماعية تمنح الحشد حقّ الحفاظ على هوامش استقلال داخل المظلّة الرسمية، باعتبار “الدمج الصارم” يبدد عناصر الردع ويعيد هشاشة ما بعد 2014.
القراءة الثانية، تتبناها مرجعية النجف وتشكيلات العتبات، وتذهب إلى تبني نموذج أكثر مهنية تحت سقف الدولة، يفصل بوضوح بين السلاح والسياسة ويرفع من أهمية التراتبية والإنفاق. بالتوازي، يتعامل التيار الصدري مع الحشد بسردية تعتبره عامل اختلال لقواعد التنافس الديمقراطي في الدولة، ولذلك، يدفع التيار بقوة في اتجاه حصر السلاح داخل مؤسسات الدولة.
خارج البيت الشيعي، لا يتحفظ المكوّن السني – على مستوى القيادات السياسية للطائفة في مؤسسات الدولة – على سردية الحاجة الأمنية التي لبّاها الحشد في مواجهة تنظيم “داعش” وفي مكافحة الإرهاب وضبط الحدود، لكنه يتبنى مواقف نقدية تجاه الطابع الطائفي وارتباطات الفصائل الولائية بإيران وتدخلات الحشد السياسية وفي إدارة الملفّات الحساسة والانتخابات والاقتصاد. في السياق ذاته، تتعامل القوى الكردية ببراغماتية حذرة مع حضور الحشد في مناطق التماس والممرات اللوجستية وترى فيه ورقة ضغط اتحادية تُستدعى عند الأزمات، ما يعزز مطالبتها بترتيبات عملياتية مؤسسية تمنع تسييل الخلاف السياسي إلى احتكاك أمني.
خارجيًا، تنظر إيران إلى الحشد كجزء من محورها في الإقليم وبنية ردع على الحدود الغربية ورافعة لنفوذها السياسي والعسكري. ولذا، تفضّل طهران مسار مأسسة الحشد بما يحافظ على القنوات والهوامش التشغيلية من دون إحراج الحكومة في بغداد وهو المسار الذي يمثل وجهة نظر الإطار التنسيقي والفصائل الولائية.
بالنسبة للولايات المتحدة، لا تستهدف واشنطن تفكيك الهيئة بقدر ما تسعى إلى إعادة ضبط وتشكيل “السلوك” وفك الارتباط البنيوي بطهران بما يضمن حماية وجودها وشركائها وتقليص المخاطر. ترى واشنطن ضرورة ربط أي دعم أمني للحكومة بتقدم قابل للقياس في الحوكمة والانضباط ووضع القدرات العسكرية الحساسة تحت قرار الدولة وغرفة عمليات مشتركة. كذلك، تؤمن واشنطن بأن الحشد اليوم هو ذراع إيرانية وأن هذا الوضع يجب ألا يستمر، وأن الطريق الأقصر لتحقيق ذلك هو في إعادته بشكل كامل لحاضنة الدولة العراقية ومؤسساتها السيادية.
يُلاحظ أن دول الخليج ورغم قلقها من اتساع نفوذ طهران على الحشد، باتت تتبنى مقاربة أكثر براغماتية تقوم على ضرورة تحييد العراق عن حرب المحاور وتوسيع الربط الاقتصادي والاستثماري المشروط بضبط الحشد ومزاحمة نفوذ طهران على الدولة العراقية والحشد الشعبي بالضرورة. يأتي ذلك من خلال سياسات وخطاب إعلامي هادئ يتجنب المواجهة أو التحشيد أو خلق صراعات سياسية مباشرة.
وسط هذه الشبكة من التعقيدات، تحاول بغداد اعتماد مسار إصلاح هادئ عبر إجراءات تنظيمية لكنها في جوهرها سياسية بإمتياز، ومن ذلك توحيد لوائح الخدمة والتقاعد وربط الرواتب بيومتريًا ورسم حدود فاصلة بين الوظيفة العسكرية والمشاركة السياسية وتجنب الجمع بين المناصب القيادية في الحشد والعمل الحزبي، كذلك ضبط الحشد عبر قيادة وسيطرة موحّدة. ويتوقف نجاح هذا المسار على توازن القوى داخل الائتلاف الحاكم وعلى مدى قدرة الدولة على إغلاق هوامش المناورة للفصائل وقياداتها دون خسارة الرأسمال الاجتماعي الذي راكمه الحشد منذ 2014.
العلاقة مع الجيش ونقاط القوة والضعف
يبلغ تعداد الجيش العراقي نحو 200 ألف مقاتل، ويتفوّق الجيش في نوعية التدريب والانضباط ونوعية التسليح وامتلاكه منظومات قيادة وسيطرة وسلاح جو ودفاع جوي وتوفر بنية لوجستية، ويمثل جهاز مكافحة الإرهاب الجناح الأكثر احترافية. قبالة ذلك، يمتاز الحشد بانتشار محلي أوسع وشبكات تعبئة ومرونة تكتيكية. تتمتع ألوية الحشد بمرونة تكتيكية وقابلية عالية لإعادة التموضع والقتال بوحدات صغيرة مع امتلاك راجمات صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى ومسيّرات استطلاعية/هجومية على مستوى تكتيكي. كما راكمت بعض الفصائل خبرة في جمع المعلومات البشرية والتقاطعية (HUMINT/Tactical SIGINT) ما يعزّز رصد الخلايا المتخفية وتحييد التهديدات.
ويستند الحشد كذلك إلى حاضنة محلية واتصال مجتمعي عبر شبكات دينية عشائرية وخدماتية تمنح قابلية وصول لوجستي ومعلوماتي لا تتوافر دومًا للوحدات النظامية.
من جهة أخرى، يواجه الحشد هشاشة بنيوية نتيجة تعدّد المرجعيات والولاءات؛ إذ يحدّ تنوّع القيادات والأيديولوجيات وتضارب الولاءات بين الفصائل الولائية وفصائل العتبات والفصائل المحلية السنية والتركمانية من تماسك منظومة القيادة والسيطرة، ما يؤدي لوجود تفاوت بل وممانعة في تنفيذ الأوامر والتوجيهات الصادرة عن القيادة. كما يخلق التباين الكبير في التسليح والتجهيز والانضباط بين الألوية فجوات في مستويات الأداء تُعقّد التخطيط العملياتي المشترك وتزيد من الاعتماد على وحدات بعينها في المهام الحساسة والكبيرة. بالتوازي، تتسبب هذه الاشكالات البنيوية في ارتفاع مظاهر الفساد الإداري والمالي، من مظاهر ذلك تضخيم قوائم الرواتب وظاهرة “الجنود الوهميين”، وتمتد إلى عقود التوريد والصيانة واللوجستيات، مع تداخل سياسي في التعيينات والانتخابات.
تتحمّل مؤسسة الحشد جراء ذلك كلفة اجتماعية كبيرة مع تزايد الاتهامات والانتهاكات التي ارتبطت بفترات مكافحة الإرهاب وملف النازحين. ورغم محاولات الحشد تفعيل آليات المحاسبة والتدريب، إلا أن هذه الإجراءات لم ترتقِ بعد إلى تأسيس منظومة انضباط موحّدة وشفافة تعيد الثقة بالحشد ومؤسساته. كما أن محدودية الدمج المؤسسي داخل وزارتي الدفاع والداخلية تُبقي على الازدواجية في القوة والقرار.
السيناريوهات المستقبلية
سيناريو الدمج المُقنّن (ترجيح متوسط): تعديل قانون 2016 لإعادة الهيكلة وتقنين الخدمة/التقاعد وتعزيز تبعية الحشد لرئيس الوزراء، مع إبقاء الألوية واقعياً على حالها ولكن بضوابط أوضح للترقية والانضباط. يقلّص هذا السيناريو ازدواجية القرار دون تفكيك الفصائل ويثبّت الحشد كقوة برية داعمة بقدرات متوسطة ضمن مظلة الدولة.
سيناريو المأسسة الهجينة (الأرجح): بقاء الحشد كيانًا رسميًا واسع التمويل مع جيوب استقلال فصائلية مرتبطة بالحرس الثوري؛ استمرار توليد الموارد عبر الأذرع السياسية مع تنسيق وظيفي مع الجيش في مكافحة الإرهاب وحماية الحدود.
سيناريو التصعيد والمواجهة (احتمالية ضعيفة): تصعيد إقليمي كبير قد يدفع فصائل إلى عمليات خارج إرادة الحكومة ما يعرّض العراق لعقوبات ويجبر رئاسة الوزراء على ضبط الحشد بالقوة أو الاستقالة، وهو ما يهدد بانشقاقات داخل البيت الشيعي بين محوري طهران/واشنطن.
سيناريو انحسار نفوذ «الولائيين» (احتمال مشروط): يتطلب تغيّرًا واسعًا في توازنات إيران الإقليمية أو تفاهمًا أميركيًا –إيرانيًا يحدّ من استخدام الساحة العراقية؛ حينها ترتفع كلفة الاستقلال الفصائلي وتتجه الفصائل للعودة تحت مظلة الدولة بشروط أكثر صرامة.
خاتمة
تكوّن الحشد الشعبي كاستجابة اضطرارية لانهيار أمني غير مسبوق، ثم ترسّخ ككتلة مؤسسية ذات وزنٍ بشري ومالي وسياسي يصعب تجاهلها. التحدّي اليوم ليس في إنكار دوره أو تقليص أثر شرعيته بل في تحويل هذا الرصيد إلى شرعية قانونية قابلة للمساءلة تُخضع الحشد بالكامل لمنظومة الدولة ضمن قيادة عمليات مشتركة.
يتطلب المسار الواقعي مأسسةً هجينة مضبوطة تقرّ بالدور الأمني للحشد وتُقلّص في الوقت نفسه هوامش المبادرة المنفردة والازدواج التنظيمي.. يُقاس نجاح هذا المسار بقدرة بغداد على إغلاق ثغرات القرار والسلاح خارج الدولة وتحييد العراق عن “حروب الظل” الإقليمية وتحويل نفوذ الحشد من مصدر هشاشة إلى رافعة استقرار ضمن عقد اجتماعي جديد.
