عادل مرزوق
منذ عام 1979، شكّلت إيران ونفوذها المتصاعد في منطقة الخليج والشرق الأوسط أحد أهم التحديات التي تواجه الولايات المتحدة وحلفائها، وبشكل خاص إسرائيل ودول الخليج. يوميات الصراع بين واشنطن وطهران كانت، ولا تزال، تشغل حيزًا، لا يستهان به، في أحداث المنطقة ومستقبلها.
ورغم تكتيكات عزل طهران سياسيًا وتطبيق عقوبات اقتصادية مشددة عليها، بالتوازي مع الضغوط المتفاوتة من جانب خصوم طهران لجر واشنطن إلى مواجهة مباشرة مع طهران، يمكن القول إن الولايات المتحدة لم تتخذ أي خطوات جذرية بهدف الإطاحة بالنظام الحاكم في إيران أو القضاء على نفوذه الإقليمي بشكل حاسم.
يظهر تحليل طبيعة السياسات الأمريكية تجاه طهران سعي واشنطن الجاد لتحجيم النفوذ الإيراني. ويمكن فهم وتتبع هذا النهج من خلال النظر إلى الأحداث الراهنة في المنطقة، مثل الحرب الإسرائيلية على غزة 2023 والهزيمة العسكرية الفادحة لحزب الله وسقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، تصب جميع هذه التطورات في اتجاه إضعاف إيران ومنعها من فرض هيمنتها على الإقليم، لكنها أيضًا تؤكد أن هذا السعي لا يصل، بأي حال من الأحوال، إلى الإجهاز على نظام الحكم فيها أو إلى إنهاء نفوذها تمامًا.
وعليه، ودون التشكيك في مصداقية العداء بين البلدين، يمكن القول إن النظرة الواقعية إلى التوازنات الجيوسياسية في المنطقة تكشف أن لدى واشنطن قناعة من نوع ما، بأن بقاء إيران ونفوذها، ضمن حدود معينة، يخدم المصالح الأمريكية في نواحٍ عدة.
مبرر للوجود
لعقود، شكل النفوذ الإيراني تهديدًا جديًا لدول الخليج واستقرار أنظمة الحكم فيها ويزخر تاريخ العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران بفصول من التدخلات والمواجهات والتهديدات، وهو ما دفع دول الخليج إلى طلب الحماية الأمريكية بشكل دائم. وتحت هذه المعادلة، عززت واشنطن من وجودها العسكري في المنطقة عبر مجموعة من القواعد العسكرية في غالبية دول الخليج، وفي مقدمتها البحرين (مقر الأسطول الخامس) وقطر (قاعدة العديد) والكويت والإمارات.
تدرك واشنطن أن زوال التهديد الإيراني تمامًا ينهي حاجة دول الخليج إلى الوجود العسكري الأمريكي كمظلة أمنية لا غنى عنها. وبالنظر إلى أن دول الخليج تتصدر قائمة دول العالم الأكثر استيرادًا للأسلحة الأمريكية، ستصبح دول الخليج دون تهديدات طهران أقل حماسة للاستمرار في معدلات الإنفاق العسكري المرتفعة وإنفاق مليارات الدولارات على الطائرات الهجومية والمسيرة وأنظمة الدفاع الجوي فضلاً عن مراكمة كميات هائلة من الأسلحة التقليدية. وعليه، تفقد الولايات المتحدة أحد أكبر دوافع صفقات التسلح في الخليج، ما قد يؤدي إلى انخفاض الطلب على أسلحتها، وهو أمر لا ترغب به واشنطن، خاصة في ظل التنافس مع الصين وروسيا في سوق التسلح العالمي.
تعزيز التحالفات الإقليمية بقيادة أمريكية
من خلال إبقاء إيران كعدو مشترك لحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، تدفع واشنطن هذه الدول إلى التعاون والتنسيق الدائم تحت رعايتها. يظهر ذلك بوضوح في اتفاقيات إبراهام التي وقعت في النصف الثاني من عام 2020 حيث لعبت التهديدات الإيرانية دورًا معتبرًا في إقناع بعض دول الخليج (الإمارات والبحرين) بأن إسرائيل شريك يمكن لها أن تثق به في مواجهة إيران وتهديداتها، وهي الخطوة التي كانت، ولا تزال، تهدف إلى خلق محور إقليمي جديد قادر على مواجهة النفوذ الإيراني تحت رعاية أمريكية مباشرة.
وفي حين أن للعاصمة السعودية الرياض رؤية مغايرة للإمارات والبحرين وأن تطبيعًا رسميًا للعلاقات بين الرياض وتل أبيب لم يحدث بعد، ورغم ما يظهر من مشادات وتصريحات حادة بين البلدين، تشير تقارير وازنة إلى وجود تعاون أمني واستخباراتي بين السعودية وإسرائيل يرتكز على العداء المشترك لإيران ومواجهة الجماعات الإسلامية المتطرفة، وكالعادة، تلعب الولايات المتحدة دور الضامن لهذا التعاون الأمني والاستخباراتي بين البلدين.
يمكن القول إن نهاية دراماتيكية للنظام الإيراني ستكون محل ترحيب من جميع دول الإقليم المناوئة له، لكنها أيضًا، نهاية ستتسبب في فقدان واشنطن لأحد أدوارها النافذة في المنطقة، وبالنتيجة أيضًا، تُغلق أمام إسرائيل نافذتها الواسعة على منطقة الخليج.
تحجيم النفوذ الإيراني
أظهرت حرب غزة 2023 كيف يمكن لواشنطن استخدام صراعات الإقليم في تطويق وضرب حلفاء إيران في المنطقة دون الدخول في مواجهة مباشرة معها. فمن خلال دعم إسرائيل في حملتها العسكرية ضد حركتي حماس والجهاد الإسلامي، تم إضعاف النفوذ الإيراني في غزة، وهو ما مثل ضربة استراتيجية لطهران التي كانت تعتمد على هذه الفصائل كأدوات مباشرة للضغط على إسرائيل وواشنطن.
اللافت، وخلاف ما كانت تل أبيب تسعى إليه جاهدة، مارست واشنطن الضغوط إلى عدم توسيع الحرب لتشمل مواجهة مباشرة مع إيران أو حتى مع حزب الله اللبناني، وهو ما يؤكد أن الهدف الأمريكي كان، دائمًا وإبدًا، ينحصر في تحجيم القوة الإيرانية وليس جر المنطقة إلى مواجهة شاملة قد تضر بالمصالح الأمريكية.
دخول حزب الله إلى الحرب فيما اعتبره مجرد “جبهة اسناد” لا تقتضي الذهاب إلى حرب مباشرة، أتاح لإسرائيل توسيع رقعة الحرب وهو قرار لم تكن واشنطن ستقف ضده مع نجاح تل أبيب الحاسم في تدمير بنية الحزب العسكرية واغتيال قياداته السياسية والعسكرية بشكل مفاجئ ودقيق. رغم ذلك، وبضغوط أمريكية وفرنسية، توقفت الحرب دون أن تستطيع إسرائيل تحقيق هدفها النهائي وهو القضاء الفعلي على كامل قوة حزب الله. ولئن كان حزب الله اليوم أضعف من أي وقت مضى إلا أنه لا يزال القوة العسكرية الأبرز في لبنان.
كان سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024 ضربة قاسية لإيران التي استثمرت مليارات الدولارات في دعم الأسد لنحو 14 عامًا من الحرب، سواءً عبر التمويل المالي أو العسكري أو إرسال المستشارين العسكريين والميليشيات المسلحة مثل حزب الله وفيلق القدس وبعض الفصائل المسلحة العراقية والأفغانية. بسقوط الأسد، خسرت طهران أهم موطئ قدم لها في بلاد الشام، وهو ما عطل قدراتها على دعم حليفها الأهم في لبنان (حزب الله).
لم تتدخل الولايات المتحدة بشكل مباشر في الإطاحة بنظام الأسد، إلا أنها دعمت الضغوط السياسية والعسكرية التي أضعفت نظامه وهو ما أدى إلى تآكل النفوذ الإيراني في سوريا بشكل تدريجي. وكما قدمت واشنطن الضوء الأخضر لإسرائيل في لبنان سمحت لتركيا في تنفيذ مشروعها في سوريا. في المحصلة، استكمل سقوط سوريا مشروع واشنطن في إضعاف النفوذ الإيراني بنجاح.
تشكل جماعة أنصار الله “الحوثيين” تهديدًا جديًا للسعودية، بالتوازي، ساهمت الجماعة ضمن المحور الإيراني في منع السفن التجارية المتجهة إلى إسرائيل عبر البحر الأحمر واستهدفت جنوب إسرائيل بصواريخها الباليستية وطائراتها المسيرة، رغم ذلك، لم تسعَ واشنطن إلى القضاء عليهم بشكل كامل واكتفت بمحاولة الحد من نفوذهم البحري وتعطيل قدراتهم العسكرية على استهداف إسرائيل. ولئن كانت الضربات العسكرية الأخيرة التي أمر الرئيس دونالد ترامب بشنها على معاقل الحوثيين تبدو أكثر إيلامًا وحزمًا إلا أنها لا تشير إلى رغبة واشنطن في القضاء على سلطة الحوثيين، وعليه، لا تمثل هذا الضربات خروجًا عن السياق.
كلفة كبيرة ومكاسب محدودة
إن ضربة عسكرية أمريكية محدودة على إيران لا تعني الكثير، بل يمكن امتصاصها والرد عليها في مشهد لا يختلف عن الضربة الإيرانية على قاعدة عين الأسد في محافظة الأنبار بعد مقتل قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني في غارة أمريكية مطلع يناير 2020، وعليه، إن تدمير البرنامج النووي لإيران بالكامل يقتضي تدمير القوة الصاروخية في التوقيت نفسه، وهو هدف صعب التحقيق غير محمود العواقب في ظل الترسانة الصاروخية الكبيرة والمنتشرة في مختلف الأراضي الإيرانية.
الأهم من ذلك، هو السؤال عن كلفة هذا التحرك وتبعاته، والمكاسب المتوقعة منه؟
إلى ذلك، تدرك الولايات المتحدة أن إسقاط النظام الإيراني قد يؤدي إلى فوضى داخلية لا يعرف مآلاتها. وبالنظر إلى طبيعة النظام السياسي في إيران وخلفيته الدينية فإن المراهنة على أن نظاماً مواليًا للغرب والولايات المتحدة تحديدًا، هو بالضرورة من سيرث هذه المنظومة هو احتمال مستبعد. إن تهديدًا جديًا لبقاء النظام السياسي في إيران سيحرك المياه الراكدة في العراق ولبنان وسوريا حيث تصبح السيناريوهات معقدة ومتشابكة وغير مضمونة النتائج والتداعيات. وهو ما قد يحيل المنطقة برمتها إلى الدخول في فوضى يصعب التعامل معها وتطويقها.
رغم التعاون الاقتصادي والعسكري الوثيق بين طهران وبكين وموسكو إلا أن هذه العلاقات دائمًا ما يشوبها العديد من الاختلافات، من شواهد ذلك المُلاسنات المتبادلة بين طهران وموسكو بعد سقوط نظام الأسد في سوريا وتحميل بعضهما البعض مسؤولية سقوط نظام الأسد كذلك تمنع طهران عن توقيع العديد من الشراكات الاقتصادية مع الصين مخافة هيمنة الصين الكاملة على اقتصادها. وعليه، تدرك واشنطن إن ممارسة المزيد من الضغوط على إيران يمنح موسكو وبكين الفرصة لتعزيز نفوذهما في إيران والعراق، وهو ما تسعى واشنطن إلى منعه.
خلاصات
يمثل زوال التهديد الإيراني بالكامل تحديًا جديًا لاستمرار النفوذ الأمريكي في منطقة الخليج واعتبارها الشريك الأول والأهم لدول الخليج دبلوماسياً وعسكرياً.
يفتح خروج إيران من توازنات الإقليم الباب أمام تغول غير محمود العواقب لتركيا التي ستكون مهمتها أسهل للتدخل والتأثير في العراق وسوريا ولبنان وبما يصل إلى منطقة الخليج نفسها. وعليه، يمكن القول أن إيران ومحورها يعتبر مصدة إقليمية طبيعية أمام تركيا وطموحاتها في توسيع رقعة نفوذها التي تعززت مؤخرًا بانضمام سوريا إليها.
ورغم أن العداء بين الولايات المتحدة وإيران هو عداء حقيقي يمكن ملامسة أثاره وتداعياته بوضوح، تكشف السياسات الأمريكية عن أن واشنطن لا تسعى إلى القضاء على النفوذ الإيراني بقدر ما تهتم بتحجيمه وإدارته بما يخدم المصالح الأمريكية دون أن يصبح تهديدًا حقيقيًا لهيمنتها في منطقة الشرق الأوسط. ومن هنا، فإن كل تحركات الولايات المتحدة في المنطقة، من دعمها للحرب الإسرائيلية على غزة وجنوب لبنان إلى إضعاف حزب الله وسقوط نظام الأسد، تأتي ضمن هذا الإطار الأوسع، حيث تعمل واشنطن على كبح النفوذ الإيراني دون القضاء عليه نهائيًا.