ملخص تنفيذي
يتناول هذا التقرير بشكل معمق وشامل ظاهرة التطرف في منطقة الخليج ساعيًا إلى فهمها من خلال تحليل دقيق لجذورها التاريخية والاجتماعية والسياسية.
يناقش التقرير تشكل ظاهرة التطرف وتأثرها بتداخل عوامل متعددة، بدءًا من التحالف التاريخي بين السلطة السياسية والتيارات الدينية المتشددة، وصولًا إلى التأثيرات الإقليمية التي ساهمت في تفاقمها، مثل الثورة الإسلامية الإيرانية وحادثة اقتحام الحرم المكي وحروب الخليج المتتالية.
ويكتسب هذا التقرير أهميتها في ظل موجة الانفتاح الاجتماعي والثقافي غير المسبوقة التي تشهدها دول الخليج، خصوصًا في السعودية والإمارات. هذه الموجة التي ورغم ايجابياتها الواضحة، فإنها تثير، في الوقت نفسه، ردود فعل سلبية وناقدة من جانب التيارات المحافظة والمتشددة التي تعتبر هذا الانفتاح تهديدًا لهويتها وقيمها الإسلامية.
يناقش التقرير سيناريوهات استغلال التنظيمات المتطرفة لهذه التحولات كذريعة لتبرير مواقفها وهجماتها، مستشهدًا بحالات ملموسة من بعض دول الخليج، حيث تحولت بعض حركات المعارضة السياسية السلمية إلى تنظيمات عنيفة.
يقدم التقرير تحليلًا دقيقًا لتحديات مواجهة التطرف، من التحديات الأمنية والاستخباراتية المتمثلة في الخلايا الصغيرة والفردية التي يصعب تعقبها إلى التحديات الفكرية والاجتماعية، مثل الحاجة إلى تعزيز قيم التسامح والفكر النقدي، والتعامل مع الانقسامات الطائفية والشعور بالتهميش والعزلة القسرية بين بعض الفئات المجتمعية.
ومن خلال رؤيته التحليلية، يصل التقرير إلى استنتاجات جوهرية تؤكد أن المعركة مع التطرف في دول الخليج لم تُحسم بعد، وأن القضاء على الإرهاب لا يمكن أن يتم بالوسائل الأمنية فقط، بل يحتاج إلى مقاربة متكاملة تستهدف الجذور الفكرية والاجتماعية والسياسية. كما يحذر التقرير من استمرار غياب الحلول السياسية الأمر الذي قد يدفع المزيد من المعتدلين نحو التطرف.
في مستوى التوصيات، يطرح التقرير توصيات محددة لصناع القرار وللمعنيين في مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، من أبرزها ضرورة تعزيز الاندماج السياسي والاجتماعي من خلال فتح قنوات الحوار مع المعارضات المعتدلة ومواصلة الإصلاحات الاجتماعية بطريقة تراعي حساسية المجتمع، كذلك تكثيف جهود التعليم والتوعية ضد الفكر المتطرف. كما يؤكد التقرير على أهمية التعاون الإقليمي والدولي لمكافحة الإرهاب وتبادل المعلومات الاستخباراتية.
بهذه الطريقة، يقدم التقرير مساهمة فريدة وقيمة لفهم ظاهرة التطرف في الخليج، ويطرح خارطة طريق واضحة لصناع القرار من أجل تحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي وضمان مستقبل آمن ومزدهر لمنطقة الخليج.
مقدمة
لعقود مضت، شهدت منطقة الخليج تناميًا لظاهرة التطرف الديني والسياسي. تعود جذور هذه الظاهرة إلى خليط معقد من العوامل التاريخية والاجتماعية والسياسية. من جهة، تستمد بعض حركات التطرف الديني مرجعيتها من تأويلات متشددة للإسلام برزت منذ قيام التحالف التاريخي بين السلطات السياسية والتيارات الدينية في القرن الثامن عشر. أسس هذا التحالف لنمو تيار ديني محافظ هيمن على الحياة الاجتماعية والفكرية في السعودية وهو ما امتد لباقي مشيخات الخليج، ما جعل البيئة مهيأة لاحقًا لظهور حركات أكثر تشددًا تنتقد أي خروج عن النهج السلفي الصارم. لا يمنع ذلك الإشارة إلى أن هيمنة هذه التيارات الدينية ونفوذها كان متفاوتًا بين دولة وأخرى.
لاحقًا، مثّلت الأحداث المفصلية في أواخر القرن العشرين منطلقًا لبروز التطرف كقوة مُنظمة. وحمل عام 1979 حدثين فارقين: الثورة الإسلامية الإيرانية من جهة، وحادثة اقتحام الحرم المكي في السعودية من جهة أخرى. شكّلت الثورة الإيرانية إلهامًا لعدة حركات شيعية سياسية في الخليج، خصوصًا في البحرين والسعودية، تبنّت هذه الحركات خطابًا ثوريًا يدعو لإسقاط الملكيات بدعوى إقامة حكم إسلامي مطابق للنموذج الإيراني، أشد اللحظات تعبيرًا عن هذه الانعطافة كانت محاولة الإنقلاب العسكري في البحرين عام 1981 على يد الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين ونشوء تنظيمات مثل حزب الله الكويت. أما حادثة الحرم المكي فقد دقّت ناقوس الخطر داخل المملكة إذ أنها أعلنت عن وجود تيار محلي مستعد لتحدي شرعية العائلة الحاكمة “آل سعود” باسم الدين.
في العقود اللاحقة، تراكمت عوامل أخرى عززت مد التطرف الديني والسياسي. أدت الحروب الإقليمية إلى مفاقمة الظاهرة وساهم وجود القوات الأجنبية في السعودية إبّان حرب الخليج 1990-1991 في تأجيج اعتراضات التيار الصحوي الإسلامي الذي رأى في الاستعانة بالأجنبي “مفسدة شرعية”. وفي الوقت ذاته، نشطت جماعات جهادية مسلحة كان أفرادها من أبناء الخليج الذين قاتلوا في أفغانستان ثم عادوا محمّلين بفكر السلفية الجهادية. شكل هؤلاء نواة تنظيمات متطرفة مثل القاعدة في السعودية التي تبنت العنف وهاجمت أهدافًا داخل السعودية في الأعوام 2003-2004، ما أسفر عن مقتل وإصابة المئات من السعوديين والأجانب.
من جهة أخرى، شهدت بعض دول الخليج – مثل البحرين والكويت – محاولات مبكرة للإصلاح السياسي، تمثلت في مجالس تشريعية منتخبة ومواثيق وطنية. لكن هذه الإصلاحات تعثرت، وهو ما أبقى شريحة من المعارضة محبطة وقابلة لتبني خطابات أكثر حدة وتطرفًا. وصل الإحباط ذروته مع موجة الربيع العربي 2011 التي اجتاحت المنطقة حيث اندلعت احتجاجات شعبية في البحرين عام 2011 كشفت عن عمق الاحتقان الطائفي والسياسي في البلاد، قوبلت المطالب الإصلاحية السلمية بالقمع الأمني لتتحول البحرين إلى ساحة اضطراب مزمنة.
في السعودية أيضًا، ظهرت احتجاجات محدودة في المنطقة الشرقية ذات الأغلبية الشيعية قوبلت بإجراءات صارمة، كما تصاعدت حملة أمنية وإعلامية ضد أي نشاط لتنظيم الإخوان المسلمين أو التيارات الإسلامية السياسية الأخرى في السعودية والإمارات.
اليوم، تسعى دول الخليج إلى موازنة دقيقة بين المضي قدمًا في مشاريع التحديث والانفتاح الاقتصادي والمجتمعي وبين الحفاظ على الاستقرار ومواجهة الفكر المتطرف. هذا التحديث يهدف إلى تعزيز الاعتدال والوسطية وتقليص نفوذ الفكر المتشدد، لكنه في الوقت ذاته تغيير يثير ردود فعل رافضة ومنددة من قبل العناصر الأكثر محافظة. بالتوازي، تتبنّى الدول الخليجية سياسات أمنية صارمة ضد الإرهاب مع تعاون إقليمي ودولي في تبادل المعلومات الاستخباراتية.
ورغم النجاحات المعلنة في تفكيك خلايا إرهابية وإحباط هجمات في دول الخليج، فإن مؤشرات عديدة تدل على أن بذور التطرف لم تُقتلع تمامًا وأن التيارات المؤمنة بالعنف كوسيلة لتحقيق أهدافها لا تزال تسعى لاستغلال أي فرصة سانحة.
في ضوء هذا المشهد، تهدف هذه المقدمة إلى وضع القارئ في السياق التاريخي والسياسي لظاهرة التطرف في الخليج، تمهيدًا لتحليل أكثر تعمقًا للعوامل المغذية للتطرف والتحديات التي تواجه الدول في مكافحته، وصولاً إلى دراسة حالات انزياح المعارضات نحو الخطاب المتطرف، وأخيرًا استشراف سبل المعالجة وتقديم التوصيات المناسبة.